التربية في التراث الإسلامي

التربية في التراث الإسلامي

هذا مقال من سلسلة مقالات تربوية تنشر حصريا بالتعاون مع موقع معين المعرفة والكاتب الدكتور محمد بنعمر، جميع الحقوق محفوظة (يحظر نسخ المحتوى ونشرها على مواقع أخرى أو طباعتها دون وضع رابط المقالة و الكاتب).

تحتل التربية موقعا متميزا في خريطة  العلوم الإسلامية، وهو ما تؤكده مؤشرات التأليف والتصنيف والكتابة في هذا التخصص العلمي [1] ،وهي  مؤشرات مظهرة و مؤكدة على مدى حضور الممارسات التربوية في الفكر التربوي الإسلامي.

ومن  المشترك العام  والجامع بين تعاريف علماء الإسلام للتربية، هو اتفاقهم المبدئي  في كون  التربية  هي  التنشئة  المستمرة  على  الخصال والقيم  الحميدة والنبيلة .[2].

وبالتالي لابد من الاعتراف المبدئي بمساهمة وريادة علماء الإسلام في تطوير الفكر التربوي ،وهو المعطى الذي يؤكد بان التربية شكلت احد مشاغل واهتمامات علماء الإسلام قديما وحديثا ، فرغم اختلاف اختيارات وتوجهات علماء الإسلام، وتخصصاتهم العلمية ومنازعهم المعرفية والمذهبية،فان حضور الممارسات التربوية ظلت راسخة وحاضرة ومتأصلة عندهم  بشكل قوي  وبحضور كبير.[3]

ومن ابرز التجليات الدالة على مدى حضور الممارسات التربوية في الحضارة العربية الإسلامية هو تلك المؤلفات والمدونات والمصنفات التي الفت في هذا العلم  ،والتي تدل على مدى قوة اشتغال علماء الإسلام على التربية وعلى طرق التدريس والتعليم.

ومن هذه المؤلفات  الدالة على  الممارسات التربوية  في التراث العربي الإسلامي كتاب”من أعلام التربية العربية الإسلامية”[4] وهو موسوعة شاملة وواسعة و ضخمة ، إذ عمل مؤلفوه على استحضار أهم الأعلام والمفكرين التي اشتغلوا على التربية في الحضارة العربية الإسلامية،فهو كتاب حافل وغني بالنصوص والنقول والشواهد والمصنفات والنماذج ،والشخصيات التي ساهمت من قريب أو بعيد في تطور الفكر التربوي الإسلامي.

ومن  الكتب الأخرى التي نسوقها مثالا وشاهدا  للتأكيد على مدى اشتغال علماء الإسلام على  التربية كتاب  :الفكر التربوي الإسلامي عبر النصوص لمجموعة من الباحثين تحت إشراف الدكتور والخبير التربوي محمد الدريج [5]وهو من إصدار مجلة علوم التربية ،وكانت سنة الإصدار هي: 1992.[6]

هذه القوة التي كانت لعلم التربية في الحضارة العربية الإسلامية  تعود أن المرجع والمدار المؤسس للتربية في الإسلام هو القرءان الكريم والسنة النبوية ، إذ شكل القرءان الكريم مرجعا دينيا راسخا و اختيارا ثابتا للمسلمين في ممارسة التفكير، وفي إعمال النظر في هذا الكون الذي سخره الله للإنسان.[7]

وللوصول إلى تحقيق هذا المبتغى كانت التربية في الإسلام رافدا موصلا  لتحقيق وتأصيل القيم العليا التي تتوقف عليها  حياة المجتمع البشري ،والعمل على ترسيخها وإشاعتها بين الفرد والمجتمع، لان القيم عادة ما تختزل في السوكات الضابطة للفرد والمجتمع وهي الموجهة للإنسان في سلوكه .

تحديات علماء الإسلام في التربية

سبق الذكر أن التربية بمفهومها العام في التراث الإسلامي تعني إعداد الإنسان في مختلف جوانب حياته وشخصيته من منظور الإسلام ،ومن رؤيته في الوجود  والإنسان وانطلاقا من مقاصده العليا في التشريع [8] .

وعليه فمن ابرز التعريفات للتربية بين علماء الإسلام للتربية:

-تعريف ابن سينا للتربية[9] .

عرف ابن سينا التربية بأنها وسيلة وأداة لإعداد الناشئين للدين والدنيا في آن واحد،وتكوينهم عقليا ووجدانيا وخلقيا ،وجعل الفرد قادرا على اكتساب صناعة تناسب ميوله وتوافق طبيعته واختياراته حتى  يتمكن  الإنسان من كسب عيشه….”.[10].

-تعريف الإمام الغزالي:505ه

من ابرز التعاريف للتربية في التراث التربوي  الإسلامي تعريف الإمام الغزالي ت505ه الذي اعتبر التربية من قسم من العلوم الشريفة النافعة في مقابلة العلوم الوضيعة التي لا تحمل أي منفعة  للإنسان في عاجلته وأجلته ،”فان المعرفة في كون بعض  العلوم اشرف من بعض يكون في ثمرتها ،فالعلم بثمرته يعرف….[11].

ومما يركز عليه الإمام الغزالي ت505ه في تأصيله وتوصيفه للتربية هو مراهنته بلغة مؤكدة على البعد القيمي والروحي في التربية وفي ضرورتها للإنسان .

فهذا الاختيار يرجع أن الإنسان يفضل عن الحيوان، وعن البهيمة  بالتربية والتعليم، والذي شد الإمام الغزالي في حديثه وتأصيله للفعل التربوي هو أن التربية هي الفارق و الفاصل بين الإنسان والحيوان، فلولا التربية والعلم” لصار الناس مثل البهائم”،[12] .

وفي توصيفه للتربية يقدم الإمام الغزالي هذه الصورة المركبة فالمربي عمله يشبه  عمل الفلاح المداوم اليومي والذي يعمل باستمرار وبدون توقف في  مزرعته هو يقلع  الشوك،و  يخرج النبات الفاسد ليحتفظ على النبات الصالح فقط..[13].

 واعتبر الإمام الغزالي التربية بأنها المدخل والمنطلق والضرورة في صلاح الفرد و في صلاح المجتمع ،وهي السبيل والطريق إلى تحقيق التمدن و السعادة للإنسان ،والارتقاء بهذا الإنسان  من الحيوانية إلى الإنسانية….[14].

ومما يشدد عليه الإمام الغزالي ويدعو الإباء إلى الأخذ والالتزام به هو ضرورة المتابعة والرعاية وبالعناية بتربية الأبناء ومتابعتهم، قال الغزالي  في كتابه “أيها الولد”: “يجب عل كل مسلم أن يجري لسان ابنه على كلام طيب وألفاظ ملحة،ويحرزه من كلمات الفحش إذا ابتدأ التكلم،ويجب على المسلم امتثال أمر أستاذه إلا أن يأمر على المناهي ،فانه يخالفه،ويجب على المسلم تعظيم العلم وأهله….”.[15].

ومما يذكره الإمام الغزالي ت505ه في هذا السياق أن التربية هي الأساس والمنطلق والضرورة في صلاح الفرد و في صلاح المجتمع ،وهي السبيل إلى تحقيق التمدن ،وبلوغ السعادة للإنسان والارتقاء به من درجة  الحيوانية إلى الإنسانية….[16].

والتربية عادة ما تقترن بطلب العلم بشقيه الديني والدنيوي فأفضل العبادات هو تحصيل العلم”بل هو أفضل العبادات…”[17] وشبه الإمام الغزالي التعلم “كتعمير البيت….”[18].

ولتحقيق الربط بين العلم وثمرته ونتائجه، فقد اعتبر الإمام الغزالي العمل الجدي على تربية الأولاد فهي رعاية وولاية ومسؤولية كبرى “والأهل والولد رعية،وفضل الرعية عظيم…فمقاساة الأهل والولد بمنزلة الجهاد في سبيل الله…”.[19]

وهو يدعو الأب إلى  الصبر في تحمل المسؤولية التي تفرضها التربية في المحافظة على الأبناء قال في وصيته :”والصبر على العيال، مع أنه رياضة ومجاهدة، تكفل لهم، وقيام بهم، وعبادة في نفسها” [20] ، ” ويعلق على تصريحه بقوله   “ان الهارب من عياله بمنزلة العبد الهارب الآبق، لا تقبل له صلاة ولا صيام حتى يرجع إليهم”[21]..

من  جهة يعتبر الإمام الغزالي ت505ه الطفولة  مرحلة حاسمة وفاعلة ومؤثرة في مستقبل ومصير حياة الإنسان  قال الإمام الغزالي في هذا السياق :”وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة ،وهو قابل لكل  ما نقش ومائل إلى كل ما يمال إليه ،فان عود الخير وعلمه نشا عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبوه، وكل معلم له مؤدب ،وان عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك ،وكان الوزر في رقبة القيم عليه والولي له….”.[22].

هذه التصريحات والنقول المبثوثة في كتب الإمام الغزالي تظهر مشاركته القوية ،وتكشف مساهمته المتميزة ،وتجعله مشاركا ورائدا من رواد التربية في التراث التربوي الإسلامي.

– المؤلفات الإسلامية في التربية

لقد سبق الذكر أن علماء الإسلام اعتنوا بالتربية اعتناء كبيرا ومنحوها موقعا متميزا ضمن العلوم والمعارف التي اشتغلوا عليها، يفسر هذا الاعتناء والاشتغال بالتربية تأليفا وكتابة وتصنيفا على امتداد تاريخ الإسلام ،هو تلك المصنفات والمؤلفات المدونة في هذا العلم .

 إذ أن اكبر الدلائل الدالة و الشاهدة والكاشفة على مدى اهتمام علماء الإسلام بالدراسات النفسية والتربية  هو حضور التصنيف والتأليف في هذا النوع من التخصص  في التراث الإسلامي بشكل كبير.

والذي يعكس هذا الحضور،هذا الكم الهائل من المؤلفات والدراسات والمصنفات التي  اشتغلت على التربية وعلى طرق التعليم والتدريس  في الإسلام ومنها :

-أدب الدنيا والدين للماوردي ت450ه . [23]

-كتاب العلم للحارث المحاسبي ت243ه  [24].

-رسالة المعلمين –ورسالة تهذيب الأخلاق للجاحظ ت299ه.

-تهذيب الأخلاق لابن مسكويه 421 ه.

-الأخلاق والسير لابن حزم ت 456ه.

-جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر النمري القرطبي[25]

-الرسالة المفصّلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلّمين والمتعلّمين للقابسي   ت349ه.

-المقدمة لابن خلدون 808ه-[26].

-القانون في أحكام العلم وأحكام المعلم وأحكام المتعلم للشيخ العلامة الحسن اليوسي المغربي تحقيق حميد حماني مطبعة فضالة المغرب السنة:2013.-  [27]


المراجع:

[1] -الفكر التربوي الإسلامي قائمة  ببيليوغرافيا لجمال الدين عطية إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي -ط:2السنة 1992

[2] — التربية الفكرية من منظور إسلامي للدكتور عبد المجيد النجار:16.مجلة الفكر الإسلامي المعاصر العدد:99السنة:2020.

[3] -التربية الإسلامية :حقيقتها مقاصدها-أهدافها-أعلامها لمحمد بنعمر دراسة  صدرت  ضمن  منشورات أوراق نماء  لبنان السنة :2017.

[4] – صدر عنمكتب التربية العربي لدول الخليج سنة:2011-في أربعة مجلدات.

[5]  – محمد الدريج خبير تربوي مغربي وهو من هيئة التدريس بكلية علوم التربية بالرباط المغرب  نشر عدة دراسات وبحوث تربوية  ،كما أدار  عددا  من المجلات التربوية المحكمة منها مجلة الدراسات النفسية والتربوية.وهو عضو بعدة جامعات عربية ،اشرف على عدد كبير من الرسائل والاطاريح الجامعية بكلية علوم التربية بالرباط المغرب.

.نشر أزيد من أربعين بحثا تربويا من أبرزها  : -تحليل العملية التعليمية- التدريس الهادف-  بيداغوجية  التقويم والدعم- بيداغوجية الملكات كما اشرف على إصدار هذه الدراسات:

–1-الفكر التربوي الغربي عبر النصوص لمجموعة من المؤلفين تحت إشراف الدكتور محمد الدريج  إصدار مجلة علوم التربية السنة1991.

2-الفكر التربوي الإسلامي عبر النصوص لمجموعة من المؤلفين تحت إشراف الدكتور محمد الدريج إصدار مجلة علوم التربية السنة:1992.

3-التدريس بالملكات تأليف جماعي بإشراف الدكتور محمد الدريج.

كما عمل على التعريف الواسع  ببيداغوجية الأهداف في كتابه:التدريس الهادف الذي صدر عن  مطبعة النجاح  الجديدة الدار البيضاء المغرب سنة:1990.

[6] -بيبلوغرافيا  التربية الإسلامية والتعليم الإسلامي إعداد  مجلة الدراسات النفسية والتربوية : العدد-9السنة:1984.

[7] – أهداف التربية الإسلامية ماجد الكيلاني :15  الإمارات   دار القمم: 2005.

[8] -التربية الإسلامية المصطلح والمفهوم لصالح أبو عراد:187

[9] – ابن سينا فيلسوف مسلم عاش  في أواخر القرن الرابع الهجري وبدايات القرن الخامس من الهجرة برع في الرياضيات وعلم المنطق من ابرز ما كتب : الإشارات والتنبيهات تحقيق سليمان دنيا دار المعارف بمصر 1960.

 لمزيد من التفصيل حول مساره الفكري و نشاطه  العلمي وتراثه  الفلسفي و التربوي يراجع : مقدمة كتاب :البرهان في كتاب الشفا  حققه وقدم له  الدكتور عبد الرحمان بدوي مكتبة النهضة المصرية القاهرة :1954.

[10] -الفكر التربوي الإسلامي عبر النصوص لمجموعة من المؤلفين  تحت إشراف الدكتور محمد الدريج:56.إصدار مجلة علوم التربية 1992:

[11] – فاتحة العلوم لأبي حامد الغزالي:   1/35

[12] -فاتحة العلوم للغزالي:1/22

[13] -أيها الولد للغزالي :134.

[14] — تربية الطفل عند أبي حامد الغزالي لعباس ارحيلة:126 مجلة دعوة الحق  المغربية العدد المزدوج:355-356السنة:2000.

[15] -منهاج المتعلم لأبي حامد الغزالي:80.

[16] – التربية في الإسلام للدكتور احمد فؤاد الاهواني 22-ط-2.دار المعارف القاهرة1968.

[17] -فاتحة العلوم لأبي حامد الغزالي: 28

[18] -منهاج المتعلم لأبي حامد الغزالي :68

[19] -إحياء علوم الدين للإمام الغزالي:2/38

[20] -إحياء علوم الدين:2/37

[21] :نفسه:2/82

[22] -أيها الولد للإمام الغزالي :140

[23] -صدر عن دار المنهاج سنة:2013.

[24] -اشتهر الحارث المحاسبي ت243   بكتبه وبمصنفاته في التربية في بعدها الروحي ، وبالأخص  بكتابه العلم الذي  حققه محمد عابد  وصدر عن الدار التونسية 1987.

[25] – كتاب بيان  العلم وفضله لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي  المتوفى: 463هـ  حققه  أبو الأشبال الزهيري وصدر عن دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1414 هـ …

-لمزيد من التفصيل يراجع: أعلام التربية في تاريخ الإسلام يوسف بن عبد البر القرطبي للدكتور عبد الرحمان النحلاوي دار الفكر سوريا :2017

[26] -يراجع بحث: نظرية ابن خلدون في التعليم نظرية سبقت عصرها لصاحبته – Mongia Arfa Mensia -الأستاذة بمعهد السربون بفرنسا وهذا البحث نشر بمجلة:- المجلة الدولية لعلوم التربية :العدد79السنة :2018- وكان الملف مخصصا” Les grandes figures de l’éducation dans le monde

[27] – للمزيد من المعرفة حول شخصية أبي الحسن اليوسي يراجع الملف الضخم  الذي خصصته مجلة المناهل المغربية في عددها:-15-لشخصية الإمام اليوسي العلمية والتربوية السنة:1979.
 

420 مشاهدة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *