الشيخ جلول أحمد البدوي

الشيخ جلول أحمد البدوي

حال الجزائر أيام جيل الشيخ جلول أحمد البدوي

دخلت الجزائر منذ عام 1830م في نفق مظلم، فكان على الجزائري أن يصارع قوات الاحتلال بالسلاح أولا ثم بالقلم ثانيًّا، وهذا من أجل البقاء وإلا اندرس الكيان الجزائري بجميع مقوماته، وبعد صراع طويل دام من 1830 إلى 1900م، اقتنع الجزائريون أن فرنسا لها ثقافة غير ثقافتهم وعلوم متقدمة، كانت فيما مضى علوم الأسلاف ولقيت الازدهار عند العرب المسلمين، وتأكدوا أن الخروج من النفق المظلم، يستوجب التسلح بالمعارف الحديثة والسيطرة على العلوم المتطورة، لهذا بادروا إلى إنشاء المدارس، وبلغوا شوطًا كبيرًا في  هذا المجال مما يدل على حركة كبيرة أزعجت المتربصين بالوطن من غلاة الاستعماريين(1).

هذه الحركة مثلت إرهاصات نهضة أدبية وسياسية وتعليمية، رائدة كانت القاعدة الصلبة التي انطلق منها جيل الإصلاح، لاستعادة الجزائر من أيدي الكولون والمؤسسات الفرنسية والتنفير من الإسلام، وكان الرائد الذي لا يخون قومه، هو الأستاذ الإمام والعالم الرباني عبد الحميد بن باديس ربان سفينة الخير، هو القائد والرائد والشخصية المؤثرة في عصره.

وقد ساعد ابن باديس في عمله سعة علمه ومعاصرته لجيل رسالي أمثال جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا؛ محمد الطاهر بن عاشور، حمدان لونيسي محمد النخلي، شكيب أرسلان، الشهيد العربي بن بلقاسم التبسي، محمد البشير الإبراهيمي الطيب العقبى، الشيخ مبارك الميلي، وغير هؤلاء القمم التي صاغها القرآن صياغة نادرة.

والقرآن الكريم هو الذي صاغ نفس الإمام عبد الحميد بن باديس وهز كيانه واستولى على قلبه فاستوحاه في منهجه طوال حياته وترسم خطاه في دعوته وصاحبه طوال ربع قرن من الزمن في سبيل الكفاح لبناء الأمة وإرجاعها إلى الحقيقة القرآنية منبع الهداية الأخلاقية والنهوض الحضاري، فكان همه أن يكوّن رجالا قرآنيين يوجهون التاريخ ويغيرون الأمة:” فإننا -والحمد لله- نربي تلامذتنا على القرآن من أول يوم،ونوجه

نفوسهم إلى القرآن في كل يوم”. هكذا عبر الإمام ابن باديس عن منهجه التربوي والإصلاحي(2).

ولما كانت غاية الإمام ابن باديس إصلاح المجتمع، بادر إلى التربية والتعليم و”ترميم”ما أفسدته يد الشيطان الصليبي، إذ أن فرنسا ما إن استقرت بالجزائر حتى مدت يدها إلى التعليم(3) تشوهه وتستأصله وتتخذه قاعدة ثانية في التدمير والتخريب.

لأنها تعلم أن التعليم هو الذي يصنع العقول المفكرة الرافضة ويعطي للشخصية عمقا واعيا وبالتالي يمثل حصنا يجعل كل المحاولات الفرنسية والتغريب والذوبان عبثا ومجهودا ضائعا(4).ولقد وضع ابن باديس خطته على أساس مبتكر يتلخص في أن يحاصر فرنسا في رفق وعزم صارم في الوقت الذي تظن أنها تحاصر الجزائر، ولم تتفطن فرنسا إلى مهارة هذه الخطة إلا بعد فوات الوقت، فوجدت نفسها محاصرة بعد أن استمال إليه  أعوانها طائفة بعد أخرى وكان من الضروري أن يفلح في تنفيذ خطته بعيدة المدى، وهي القيام بانقلاب جذري يرتكز في المقام الأول والأخير على إعداد جيل صالح ينهض نهضة إسلامية، بحيث يأخذ من عظمة الماضي، ومن يقظة الحاضر ما يعصمه من الزلل والانحراف، ويسير في طريق المستقبل المشرّف(5) الذي يقوم منهجه على العودة إلى منهج السلف، وهو بذلك قد كشف عن هذه القوة الهائلة التي حققت يقظة الجزائر ونهضتها المعاصرة(6).

ولما أدرك العلماء، وعلى رأسهم الإمام عبد الحميد بن باديس حاجة الأمة إلى المدارس والنوادي والصحف التي تعمل على تزكية النفوس ورفع الجهل عن العقول فقد هيأ الله لهم أهل الخير فأصلحوا شؤون الطلبة وأسسوا أزيد من 400 مدرسة مبثوثة في جميع أركان القطر الجزائري، تؤدي الرسالة بوفاء وصدق ووعي، هيأ حقيقة إلى تكوين جيش كبير كما عبر -الإبراهيمي- من المعلمين والوعاظ والصحفيين الذين كان لهم الفضل بعد الله عزّ وجل في إحياء وترميم ما هدم وأمات الاستعمار الفرنسي، ولقد كان ابن باديس وجمعه بصدد أمة بل إنسانية تعيش في محيط آسن خانق، ومهمة هذا  الجيل الرسالي نقل الأمة من محيط الفقر والجوع والفساد الأخلاقي والعقدي، إلى محيط الربانية، فأنشأوا لهذا الغرض كل الوسائل الممكنة(7)، من مساجد، ومدارس، وصحافة، ونواد ثقافية وكل ما تدعو إليه ضرورة الحياة الجديدة في مواجهة الصليبية الغربية، وما تحمل من بغض للإسلام والمسلمين في أرض الجزائر “دار الجهاد والاتحاد” (8) وتقدم التاريخ خطوة كبيرة في الثلاثينيات نحو جيل جديد من المصلحين، إنه الرعيل الثاني المتتلمذ على أفكار وصيحات الرواد، فيحدثنا المرحوم مالك بن نبي عن الفعل الإصلاحي الذي عاصره، هذا التيار الكهربائي الذي مس كل أطراف المجتمع، والذي نجح في بثه الشيخ عبد الحميد بن باديس بين الشعب الجزائري ولهذا بدأ الواقع الجزائري، وكأن: “شعاع الفجر قد بدأ ينساب بين نجوم الليل من قمة الجبل فلم يلبث أن محت آياته الظلمة من سماء الجزائر، فحوالي عام 1922 بدأت في الأرض همهة وحركة وكان ذلك إعلانا لنهار جديد، وبعثا لحياة جديدة، فكأن هذه الأصوات استمدت من صوت جمال الدين(9) قوتها الباعثة، بل كأنها صدى لصوته البعيد، لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات ابن باديس، فكانت تلك ساعة اليقظة، وبدأ الشعب يتحرك… فتحولت المناجاة إلى خطب ومحادثات ومناقشات وجدل، وهكذا استيقظ المعنى الجماعي، وتحولت مناجاة الفرد إلى حديث شعب” (10).

ومن هذا الطرح أبدأ في معالجة حياة غصن أخضر من غصون شجرة الحرية التي غرسها جيل الإنقاذ، والحرية، جيل تربى في “خير جمعية أُخرجت للناس”(11).

حياة وآثار الشيخ أحمد جلول البدوي

ولد الشيخ أحمد جلول البدوي عام 1906م بالبليدة،حفظ القرآن الكريم على شيوخ المدينة، ثم انتقل إلى زاوية الشيخ محمد بن أحمد الأنداتي بثنية الحد، وفيها أحكم القرآن الكريم، وأخذ مبادئ اللغة العربية وعلوم الفقه والأحكام والعقائد ،وهي المبادئ والعلوم التي أهلته للتربية والتعليم كما عرف عن مترجمنا، شدة انكبابه على العلم والمعرفة فكانت مطالعاته الكثيرة قد كونت منه معلمًا ومربيًّا عارفًا،وأهلته إلى المستوى العالي، إضافة إلى وجوده في وسط أدبي وعلمي، حققته النهضة العلمية التي عرفتها الجزائر كما سبق أن أشرنا إليه(12).

وكان لسان حال هذا العصامي ما قاله أحد معاصريه: الشاعر المصلح محمد اللقاني بن السائح“توفي بتونس العاصمة يوم السبت 15 ذو الحجة 1389هـ/21 فبراير 1970م” (13).

فالجهل قاتلنا والفقر مهلكنا       والبأس خاذلنا واليأس مُردينا

مدوا أيديكم فها كفي لنتحد      إن التـفـرق يا للعـار يؤذينــا

هيـا نؤم زلال العلم نشربـه        فالجهل يقتلنا والعــلم يحـيينــا

وقد لا أفي المغفور له جلول أحمد البدوي حقه، لأن مساره الأدبي وعمله التربوي يقدر بمسيرة طويلة، تبدأ منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، حينما بدأ التعليم بمدرسة الشبيبة بالجزائر العاصمة التي كانت تضم ثلة من العلماء والمدرسين المصلحين.فالمدرسة الأولى التي حطَّ فيها رحاله هي مدرسة الشبيبة الإسلامية بالجزائر العاصمة في سنة 1931 واستمر فيها مدرسا ومربيا ومديرًا إلى غاية 1942، حيث قدم استقالته منها في أواخر فبراير وقد سجل هذا الحدث ببيتي شعر هما:

ذهب الرفاق وقد تناثر عقدهم     وأنبت حبل الأنس بعد رفاق

لا خير لي من بعدهم أبدًا ولا     أمل يريح النفس غير لحـاق

والرفاق الذين غادروا مدرسة الشبيبة الإسلامية هم محمد العيد آل خليفة، با عزيز عمر، فرحات بن الدراجي، عبد الرحمن الجلالي(14).

بدأ يقرض الشعر وهو في سن العشرين من عمره، وتدرب على أوزانه وبحوره، وكانت أول محاولة شعرية له قصيدة غزلية من الغزل العفيف، نشرها بمجلة الشهاب سنة 1927، ثم واصل النشر في  جرائد جمعية العلماء،كالمرصاد والثبات ، والبصائر كما نشر في مجلة التلميذ التي تصدرها المدرسة الثعالبية الرسمية، ونشر في مجلات أخرى كالوغين المغربية والرأي العام ، والعلم. وبعد استقالته من مدرسة الشبيبة الإسلامية، عاد إلى البليدة ، فأسس بها مدرسة سماها “المدرسة التعليمية”، ودام ينشط ويربي بهذه المدرسة إلى آخر سنة 1956م.

وكما كان له نشاط  ثقافي براديو الجزائر من عام 1945– إلى غاية 1956م، ضمن الحصة الثقافية صندوق الأفكار(15).

وفي عام 1957م لجأ إلى المغرب الأقصى، ووضع نفسه تحت تصرف جبهة التحرير الوطني وأقام بالدار البيضاء وعمل مدرسًا في معهد الأمير عبد الله ثم معهد مولاي الحسن الشهير بمعهد فرانكو سابقًا ما بين 1957م- إلى 1962م إلى أن استرجعت الجزائر سيادتها، فعاد إلى الوطن وأدمج في سلك التربية والتعليم بدرجة أستاذ؛ فعين في الثانويات الآتية:

مدير ثانوية ابن شنب1963م

ثانوية عقبة وثانوية عمر راسممن 1964– إلى 1971.

ثانوية الثعالبية قبل تحويلها إلى مركز التعليم المعمم(16).

كانت مسيرة جيل الرواد من المعلمين والمربين والمساعدين التربويين أشبه بالثورة الجديدة التي أنارت سبيل الجزائر نحو استرجاع عافيتها الثقافية والتربوية مستمدة من هذا الجيل المتطوع من المعلمين والكوادر الجزائرية التي تخرجت في مدارس الشرق والمغرب وتونس، والتنويه بهذا الجيل الذي فقدت الجزائر فيه قاعدة صلبة من المخلصين المكافحين والمنافحين عن سيادة الجزائر واستقلالها، ومن هؤلاء الشيخ المغفور له بإذن الله أحمد جلول البدوي.

آثار الشيخ أحمد جلول البدوي

الشيخ أحمد جلول البدوي، شاعر وكاتب ومثقف، وأحد رجال التربية والتعليم وهو ثمرة طيبة من ثمرات جمعية العلماء ونهضتها العربية في الجزائر، وقد كان طموحًا طموح شباب الجزائر الأحرار من تحقيق للذات إلى تعميم المعرفة على أبناء هذا الوطن الذي يعاني استعمارًا فضيعا دمر الحياة ونشر الجهل والبؤس والمرض بين أفراد المجتمع الجزائري، وكان لا بد لهذا الشاب الطموح أن يساهم من مكانه في تزكية العلم والوعي والمعرفة التي يحملها بين جوانبه. فكان أديبًا وصحفيًّا مرموقًا وناقدًا اجتماعيًّا، وترك ثروة أدبية وتاريخية تسد ثغرة كبيرة في رفوف المكتبة العربية ومن بين آثاره التي رصدناها وهي قليلة جدًّا على أن نعد بإتمام هذا العمل بدراسة إحصائية لكل أعمال الأديب المصلح الأستاذ أحمد جلول البدوي رحمه الله.وهذه الآثار التي رصدناها بمساعدة الباحث والمثقف القدير الأستاذ مسعود كواتي رئيس قسم التاريخ بجامعة الجزائر.

جامع جوامع الاختصار والتبيان فيما يعرض للمعلمين وآباء الصبيان تأليف أحمد بن أبي جمعة المغراوي المتوفى عام 920هـ. بالاشتراك مع المرحوم رابح بونار، طبع الشركة الوطنية للنشر والتوزيع بالجزائر عام 1975م.

تحقيق لسان المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال لفيلسوف قرطبة ابن رشد الحفيد، بالاشتراك مع الدكتور بوعمران الشيخ.

أخبار ملوك بني عبيد وسيرتهم لأبي عبد الله محمد الصنهاجي،طُبع بالمؤسسة الوطنية للكتاب عام 1984م.

مسرحية الحذاء الملعون، وبطلها أبو القاسم الطنبوري صاحب الحذاء الملعون.وطبعت ضمن سلاسل مسرح الفتيان بالمؤسسة الوطنية للكتاب عام 1989م وجاءت في 112 صفحة من القطع المتوسط.

ديوان شعر تحت عنوان: وابل وطل غير مطبوع.

مشاركته في لجنة تحقيق ديوان محمد العيد آل خليفة أمير شعراء الجزائر ولسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

كتاب مدرسي أصدره بالمغرب سنة 1961م بعنوانآيات وأحاديث.

وبعد سرد هذه القائمة الخاصة بآثار الشيخ الأديب الأريب أحمد جلول البدوي، يمكن أن نقسم آثاره وأعماله إلى مرتب ثلاثة هي:

أولا:الأعمال الصحفية، من مقالات وأفكار ومعارف.

ثانيًّا:الشعر والمقالات الأدبية.

ثالثًا: تحقيق نصوص التاريخ والآثار التربوية والفلسفية.

أولا: الأعمال الصحفية، من مقالات وأفكار ومعارف

هذا المقام هو العمل المكمل للتربية والتعليم الذي حمل مشعله رواد جمعية العلماء الجزائريين، حيث فتحوا جبهات متعددة لملأ الفراغ وسد الثغرة الفضيعة لتي تسببت فيها الآلة الاستعمارية وهي الجهل والتجهيل، وكان دور المعلم والمربي من رجال الجمعية، ربط الشعب الجزائري بأمته ولسان ثقافتها وتوعيته إلى ما يحاك ضده بالليل والنهار.والأمر المنوه به أن البليدة، في مطلع القرن العشرين أيام ولادة مترجمنا الأستاذ أحمد جلول البدوي كانت تفتقد للمدارس العصرية، حيث تشير الوثائق أنه في عام 1907م سنة ميلاد الأستاذ أحمد جلول كان بالبليدة مدرسًا يدرس لتلاميذه الحساب والفقه والتوحيد ، ولم يذكر المفتش وليام مارسي في تقريره كما ذهب إلى ذلك الدكتور أبو القاسم سعد الله اسم هذا المدرس، وإنما انتقده مارسيه المفتش بقوله:” أن أهل البليدة غير مستفيدين منه، كما قال أن هذه المدينة لم ترشح سوى تلميذ واحد لمدرسة الجزائر الرسمية خلال الست سنوات الماضية”(17).

وكان مدرس البليدة سنة 1910م هو سيدي عبد الرحمن بن أحمد زروق الذي انتقده المفتش ديستان، حيث قال عنه أنه مدرس تقليدي في دروسه ومناهجه، فهو لا يستعمل السبورة ولا طريقة الحوار والمساءلة، ولعل هذا النقد نابع من كون الشيخ سيدي عبد الرحمن ليس من خريجي المدارس الشرعية الفرنسية حيث تذكر سيرة الشيخ أنه من خريجي المساجد والدروس العامة الأسلوب التعليمي الإسلامي التقليدي، وكان من أشهر تلاميذه  الشيخ محمد بابا عمر الذي أصبح مفتي الجزائر سنة 1941م. وكان إمامًا بالقبة عام 1925م ثم إمامًا بالجامع الكبير عام 1934م(18).

هذا الحديث كله هو الذي سيعرفنا التعليم النوعي الذي عرفته مدينة البليدة في الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن، حيث تأسست المدرسة التعليمية للأستاذ أحمد جلول البدوي وستعرف البليدة حركة تربوية نوعية راقية بتأسيس “مدرسة الإرشاد” الإصلاحية التي كانت نواة الشبيبة الإسلامية، وغيرها من المدارس التي عرفتها مدينة البليدة، حيث أصبحت منطقة جذب رجال الحركة الوطنية والإصلاحية، نظرًا لمكانتها كضاحية حساسة مؤثرة في نشاط الجزائر العاصمة الاقتصادي والتربوي، حيث تذكر التقارير الأرشيفية أن معظم مدرسي مدرسة الشبيبة الإسلامية كان معظمهم من البليدة، وقد ننشر لاحقًا هذه الوثائق ونفيد بها في أعمال أخرى.

ثانيًّا: الشعر والمقالات الأدبية

الشيخ أحمد جلول البدوي شاعر وناظم ما في ذلك شك وقد ترك ثروة شعرية كبيرة، يسعى المخلصون لجمعها وطبعها إكرامًا وعرفانًا لما قدمه هذا المصلح الحيوي من جلائل الأعمال وقد عمل وكتب في صمت وهدوء، وذهب إلى ربه في 26 جانفي 1999م عن عمر يناهز اثنين وتسعين سنة، قضى أواخر عمره ببيته بالعاصمة بجانب جامعة الجزائر المركزية لا رفيق له إلا صاحب مكتبة عربية بشارع حسيبة بن بوعلي مقابل سلالم محطة الآغا، ولا تزال المكتبة وصاحبها صامدان أمام محلات الأكلات السريعة ومحلات ومكاتب الشركات الوهمية التي تنتج السراب، إلى أن غاب صاحبها هو الآخر في زحمة محلات الساندويتش والهامبورغر.

ولما كان البحث في الجرائد والمجلات التي نشرت أعمال الشيخ أحمد جلول البدوي من الصعوبة بمكان إضافة إلى جرائد جمعية العلماء وجرائد مغربية وجرائد ومجلات الجزائر بعد الاستقلال، ومنها لمحات، وهي المجلة التي كان من محرريها في الستينيات من القرن الماضي، فقد اكتفينا بقراءة متواضعة لما نشر له من أشعار.وقد ترك ديوان شعر تحت عنوانوابل وطل.

ومن قصائده.قصيدة “أتى استقلالنا“.

يقول الشيخ أحمد جلول البدوي:

أهاب بنا إلى الغمرات ركبُُ     جفا وصل المضاجع منه جنب

آثرنا الحرب لم نأل انتقــامًا       وكيف…؟وربعنا عيث وهب

أقمناها عـلى الطغيان حربًا        يهيـج أوارُهــا دفـع وجـلب

هوى التحرير ريح لا تباري       لهـا في كـل جــانحــة مـهـبُّ

صنعنا المعجزات ونحن عزل       يـساندنا  عـلى الإعجاز ربُُّ

ومـا أرض الجزائر  غير أرض     بـها تـزكو النـهى وبـها تدب

وله في ذكرى وفاة محمد العيد آل خليفة أمير شعراء الجزائر مرثية رائعة تدل على وفاء وشاعرية، نادرة، يقول فيها: “يا أخي العيد (19).

جفَّ نبع القول في ذكراك بغتة     وجفا الشعر فهل كنت احتكرتهْ؟

ثم يقول في لوعة

وترامى الصبر ينهار جوىً         والأسى ينهب من جسمي قوته.

             يا أخي العيد ألا أبقيت لــي      قبسًـا يومـض مـن لمـع أثرتـــه

صولجان الشعر لــوح  ت به       وهـو لم يكــفك بل علَّيت تحته

أشعاره الوطنية، ورقته الغزلية أيام الثلاثينيات ومدائحه النبوية ووطنياته عمومًا تشكل ديوان شعر، بإمكانه أن يعطينا صورة عن نفس ولغة الشاعر وغيرها من القضايا التي يهتم بها النقد العربي الحديث.

ثالثًا: تحقيق نصوص التاريخ والآثار التربوية والفلسفية

من بين آثار الشيخ أحمد جلول البدوي تحقيقه لكتابجامع جوامع الإختصار والتبيان فيما يعرض للمعلمين وآباء الصبيان تأليف أحمد بن أبي جمعة المغراوي تـ920هـ، حقق هذا الكتاب بالاشتراك مع الأستاذ المغفور له رابح بونار1923م1974م (20).

وهو أول تحقيق يظهر الأستاذ أحمد جلول البدوي عام 1975م، وهو رسالة تبرز ظاهرة عناية المغاربة والأندلسيين بالتربية والتعليم، حيث نبغ فيهم محمد بن سحنون صاحب آداب المعلمين، الرسالة المفصلة لصاحبها القابسي وابن العربي المعافري الأندلسي صاحب ترتيب الرحلة في التعريف بالملة وقانون التأويل، ثم جاء القرن التاسع الهجري فبرز الشوشاوي الذي ألف كتابًا نفيسًا كان مصدرًا أساسيا في التربية والتعليم لمن جاء بعده من المعلمين والمربين وبعد هؤلاء جاء أحمد بن أبي جمعة المغراوي وألف كتابه الجامع حوالي 14 ذي الحجة من عام 898هـ/14921493م. أي سنة سقوط غرناطة آخر عاصمة للإسلام المحاصر بأوروبا الجنوبية الغربية.وقد نشرا المحققان الكتاب على نسخة واحدة، هي نسخة المكتبة الوطنية الجزائرية، رغم وجود نسخة ثانية وربما ثالثة بالمغرب الأقصى وحده مما يدل على أن عمل المحقق كان نافعًا بدليل عدم قيام باحث عربي آخر من أي قطر  بإعادة تحقيق الكتاب كما وقع لكتاب محمد بن سحنون.

أما الكتاب الثاني المحقق فهو كتاب أخبار ملوك بني عبيد وسيرتهم لأبي عبد الله محمد الصنهاجي طبع بالمؤسسة الوطنية للكتاب عام 1984م(21).وجاء الكتاب في 137 صفحة من الحجم الكبير ويبدو الجهد واضحًا، لما قام به الأستاذ جلول من تنويه ونقد واستخراج للمصطلحات والترجمة للأعلام وغيرها. كما قام الأستاذ أحمد جلول البدوي بنشر وتحقيق فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال لفيلسوف قرطبة ابن رشد الحفيد، بالاشتراك مع الدكتور بوعمران الشيخ، كما أن للأستاذ أحمد جلول البدوي مكانة لا بأس بها في نقل النصوص من الفرنسية إلى العربية كما فعل مع آثار الشاعر وفيلسوف الإسلام محمد إقبال(22).

الخلاصة

خلاصة القول: نحن أمام باحث متعدد المواهب، عصامي التكوين، نظيف الذيل مكافح من أجل رسالة الوطن الغالية، أدى واجبه وأمانته، وبلغ رسالته التربوية على خير وجه، فهل أعدنا له بعض خيره وما بذره في ربوع هذا الوطن، فرحمة الله على الأديب الشيخ المصلح والمربي أحمد جلول البدوي في الخالدين.

 بقلم الدكتور المؤرخ: محمد الأمين بلغيث/ القراءة من المصدر.

 

     الهوامش

1- أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي(1830-1954م) الجزء الثالث، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1998م.ص:8.د.محمد الأمين بلغيث، إرهاصات النهضة التعليمية الحديثة بتبسة وسوف في مطلع القرن العشرين  مجلة عصور(العدد الثاني، مخبر الدراسات التاريخية، وهران، 2003م.مازن صلاح مطبقاني، عبد الحميد بن باديس(العالم الرباني والزعيم السياسي)، دمشق، دار القلم، 1420هـ/1999.ص:61.

2- ابن باديس حياته و آثاره / الجزء الأول / ص:79.( القرآن شفاء ورحمة 1/ 327 وما بعدها.

Belghit Mohammed lAmine;l’Instruction des Algériens au temps de la France Coloniale ( Documents pour servir à l’histoire de l’enseignement des Algériens(1898-1916).livre en préparation, p:27.

Merad(Ali),Le réformisme musulman en Algérie de 1925-à 1940) essai d’histoire religieuse et sociale, les éditions El hikma Alger 1999.P:123 et suivantes.Gouverneur général de l’Algérie ,service d’information et de documentation-réponse au factum de Mekki Chadli sur la question Algérienne (document d’archives 80 pages. Algérie 1951) P:3

3- إن موضوع سياسة فرنسا التعليمية في الجزائر، من الموضوعات الجديرة بالبحث في خزائن الأرشيف الفرنسي، وعلى الرغم من المحاولات المتوفرة، فإنها لا تجيب على كل الأسئلة المطروحة حول أسلوب المسخ الحضاري الرهيب الذي قامت به أقلام ومعاول الهدم الفرنسي منذ اليوم الأول الذي وطأت فيه أقدام مغول القرن العشرين ( فرنسا الاستدمارية ) بلاد الجزائر المقدسة أرض الرباط والشهادة كما وصفها المرحوم الداي شعبان للتوسع أنظر: نور الدين (غولي)، التعليم العربي في الجزائر ما بين 1830- 1900 – مذكرة السنة التمهيدية للماجستير – إشراف د/ جمال قنان، معهد ا لتاريخ جامعة الجزائر 1985م.ولنفس الباحث ( غولي ) سياسة فرنسا التعليمية في الجزائر 1870 – 1904 – مذكرة السنة الأولى ماجستير في التاريخ الحديث بإشراف د/ جمال قنان، معهد التاريخ جامعة الجزائر 1986م.د/ أبو القاسم ( سعد الله )، الحركة الوطنية الجزائرية 1830-1900 الجزء الأول،بيروت ،دار الغرب الإسلامي ، 1992م.ص: 89 وما بعدها. سعد الله، الاتجاهات الفكرية والثقافية للحركة الوطنية ( أفكار جامحة )،ص: 32، 33.

عبد الرشيد زروقة، جهاد ابن باديس ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر(1913-1940)، بيروت، دار الشهاب، 1420هـ/1999م.ص:175 وما بعدها.

Henri Masset , les études Arabes en Algérie(1830 -1930) Revue Africaine N° 356 – 357 Alger 1933.

 Deheuvels , Islam et pensée contemporaine en Algérie ,op.cit-P:37.

Djeghloul ( A) , M‘hamed ben Rahal et la question de l’instruction des Algériens ( 1886 – 1925  , in huit études sur l’Algérie P:33.Pervillé(Guy);les étudiants Algériens,P:25.

4- الجورشي، تجربة في الإصلاح، ص: 7.

5- د/ محمود ( قاسم ) الإمام  عبد الحميد بن باديس، الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية، دار المعارف مصر 1979م.ص:23.

6-محمد البشير ( الإبراهيمي )، خلاصة تاريخ حياتي، ( مجلة الموافقات ) العدد الرابع ص:389 وما بعدها، الدكتور أبو القاسم سعد الله، مدارس الثقافة العربية، ص:95.د.محمد الأمين بلغيث، قضايا المغرب العربي في فكر الإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي(مجلة الخلدونية) العدد الرابع، بسكرة، جانفي فيفري مارس 2005م.ص:38.

7-رابح تركي، الشيخ عبد الحميد بن باديس، ص ص: 173 – 174.

8 -لمعرفة مدارس جمعية العلماء ونواديها الكثيرة، وتاريخ صحافتها المباركة راجع: د:تركي رابح، الشيخ عبد الحميد بن باديس، ص 349 وما بعدها، د/ الطالبي، ابن باديس حياته، وآثاره 1/ ص:114

– الزبير سيف الإسلام، تاريخ الصحافة في الجزائر، الجزء السادس،(الصحافة في الجزائر بين الحربين ( 1920 – 1940 )، الطبعة الثانية، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1985، ص: 110،الإحتفال بدار طلبة معهد ابن باديس ، جريدة المنار العدد:49 السنة الثالثة الجمعة 14 ربيع الأول 1373هـ/ص:2.

 Merad(A), Le réformisme musulman en Algérie P:138 ) Chrestelow ( Allan ) , culture and politics of Islamic réformisme in Algeria ( Middle East ) Vol 23 jul 1987 .PP: 255 – 273..

محمد الأمين بلغيث، تاريخ الجزائر المعاصر(دراسات ووثائق)، وثائق جديدة وصور نادرة تنشر لأول مرة، بيروت، الجزائر، دار ابن كثير، دار البلاغ، 1422هـ/2001م.ص:110 وما بعدها.

9-جمال الدين الأفغاني الحسيني، رائد الثورة الإسلامية الشاملة  على استبداد حكام المسلمين وعلى الغرب الصليبي، توفي رحمه الله يوم 9 مارس 1897م، وفي9 مارس  من عام 1997م، مرت الذكرى المئوية الأولى لوفاته(1897-1997م)، ومن الملفت للانتباه أن يجتمع أكثر من باحث ومفكر جزائري في التنويه بشخصية هذا  الثائر الإسلامي الكبير الذي تعرض لحملات تشويه منكرة لدوره ومسيرته من أدعياء الإسلام أكبر مما تعرضت له أقلام خصومه الطبيعيين وخصوم القيادات الراشدة في العالم الإسلامي، فأول من نبه إلى عظمة شخصية الأفغاني الكاتب الجزائري علي الحمامي(1902-1949م) فقال عنه مالك بن نبي ” فقد تحدث الكاتب الجزائري (علي الحمامي المقيم في مصر )-( زمن تأليفه للكتاب ) عن السيد جمال الدين الأفغاني في كتاب له عن سيرته فقال:” لسوف تذكر البلاد الإسلامية جميعا اسم جمال الدين كما تذكر بلاد اليونان اسم (هوميروس ) بين الخالدين من أبنائها”.ومن الجزائريين أيضا الذين نوهوا بدور جمال الدين في الحركة الإصلاحية الأستاذ مالك بن نبي في نصوص متناثرة تدل على وعي برسالة هذا العالم والمفكر الكبير، أما الشخصية الثالثة الذي نوهت بدور الأفغاني فهو المناضل والكاتب محمد قنانش (الظريف التلمساني) وأهم شخصية جزائرية، عرفت بجمال الدين في مرحلة الاستقلال، المرحوم مولود قاسم والدكتور أبي القاسم سعد الله أنظر: مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص:52.محمد قنانش، المواقف السياسية بين الإصلاح والوطنية ( في فجر النهضة الحديثة ) المكتبةالشعبية، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر، مولود قاسم، محاضرة حول السيد جمال الدين الأفغاني ( رمز كفاح أمة) جمع ونشر د/ أحمد بن نعمان، دار الأمة الجزائر 1993) ص ص: 106، 117.د. سعد الله / الاتجاهات الفكرية والثقافية للحركة الوطنية، ص: 33.   Aly El Hammamy Idris (roman ) P: 251.

مالك بن نبي، شروط النهضة: ص: 26. د.السحمراني، مالك بن نبي: ص:114.

عبد الغني ( بوصنوبرة )، علي الحمامي (1902 – 1949)، من أرشيف الحركة الوطنية الجزائرية (جريدة الخبر الجزائرية) يوم الاثنين 03 شوال 1417 هـ:ص:19. د/ وجيه ( كوثراني )، رشيد رضا فقيه يبحث عن الدولة
والإصلاح في إطار الإسلام ( مجلة الباحث العربي ) بيروت 1981م:ص: 18 وما بعدها.

أنظر نبذة عن حياة ومأساة علي الحَمَّامِي، سعد الله(أبو القاسم)، أبحاث و آراء في تاريخ الجزائر، الجزء الرابع، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي بيروت لبنان 1996م.ص:124 هامش رقم:4.ص:133.هامش:2.

10– مالك بن نبي، شروط النهضة: ص: 114.

11-محمد الهادي الحسني،  خير جمعية أُخْرِجَتْ للناس، أسبوعية البصائر، السلسلة الرابعة، العدد:48 الاثنين 06-13 صفر 1422هـ/30 أفريل 7 ماي 2001م.ص:16.

12- الأستاذ: محمد الحسن فضلاء، من أعلام الإصلاح في الجزائر، الجزء الثاني، الجزائر، مطبعة دار هومة 2000م.ص:53.

13-محمد اللقاني بن السائح، إلى الشعب الجزائري( نماذج من الشعر الجزائري المعاصر-شعر ما قبل الاستقلال-)، العدد رقم:1 سلسلة أدبية تصدرها مجلة (آمال)، الجزائر.(دون تاريخ)،ص:17.

14- الأستاذ: محمد الحسن فضلاء، من أعلام الإصلاح في الجزائر، الجزء الثاني، ص:53.

15-انظر:

 Avis de Remerciement (journal le soir d’Algérie, vendredi 5 samedi6 février 1999 N°2507.

16-حول وظائف الأستاذ أحمد جلول البدوي بعد استقلال الجزائر انظر:

Avis de Remerciement (journal le soir d’Algérie, vendredi 5 samedi6 février 1999 N°2507.

محمد الحسن فضلاء، من أعلام الإصلاح في الجزائر ، الجزء الثاني ص:54.

17- أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي(1830-1954م) الجزء الثالث، ص:104-105.

18- المرجع نفسه: ص:105.

19- أحمد البدوي جلول، أتى الاستقلال ( نماذج من الشعر الجزائري المعاصر-شعر ما قبل الاستقلال-)، العدد رقم:1 سلسلة أدبية تصدرها مجلة (آمال)، الجزائر.(دون تاريخ)، ص:69-73.

20- انظر عن رابح بونار وأعماله:رابح بونار، المغرب العربي تاريخه وثقافته، تصدير الأستاذ: محمد الأمين بلغيث، الجزائر، عين مليلة، دار الهدى، 1999م.ط.2.ص:6.

21-حقق وطبع عام 1984م.

22-من مآثر محمد إقبال، جاويد نامة أو كتاب الخلود، تقديم الأستاذين أبي عمران والبدوي( مجلة لمحات) العدد رقم:2 اللجنة الجزائرية لليونسكو، الجزائر 1968م.ص:55-59.

Sign inRecent Site ActivityReport AbusePrint PagePowered By Google Sites


549 مشاهدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *