ذ / ملاك المصطفى
رغم ما يطرحه مكون الدرس اللغوي من إشكالات معرفية وتربوية ، وما أثاره من ردود أفعال كثير من الأساتذة أثناء اللقاءات التربوية ، وفي تقارير المجالس التعليمية ، حول طبيعة الظواهر اللغوية ، ومدى ملاءمتها لمستوى المتعلمين ، ولراهنية التطور المعرفي والسوسيو ثقافي ، فإنه يمثل بالنسبة لنا كممارسين في الحقل التربوي فرصة مناسبة لبلورة جملة من الأهداف العامة والنوعية في أفق ترشيد الجهود ، وتبادل الخبرات وتحسين العدة البيداغوجية
ثم إن احتكاكنا اليومي بالتلاميذ والتلميذات كشف لنا بكل وضوح عن جملة من الثغرات المعرفية والإملائية واللغوية والتعبيرية في إنتاجاتهم داخل الفصل أو خارجه . إذ أظهرت النتائج أن هناك فراغا منهجيا وديداكتيكيا في التعامل مع الدرس اللغوي . وقد حاولت التأكد من هذه المسألة، عن طريق عدد من المطالب الإنجازية المختلفة التي أردت من خلالها ملامسة الأسباب عن قرب . إذ لجأت إلى تأسيس ملاحظات أولية كمقاربة وصفية تشخيصية لأخطاء المتمدرسين في ثلاثة أقسام . منها واحد في مسلك الآداب ، وقسمان في مسلك العلوم الإنسانية. وتجدر الإشارة إلى أنني قسمت الأنشطة إلى نوعين : أنشطة إنجازية تشترك فيها كل الأقسام المذكورة ، وأنشطة أخرى تختلف من قسم إلى آخر . ثم صنفت الأخطاء في جدول توضيحي على هذه الشاكلة :
الأخــطـــــــاء الـمـرتـكـبـة فــــي الإنــجــــــــازات الـــكــتـابـيـة | |||||
خ . نحوي | خ . لغوي | خ . إملائي | خ . تعبيري | خ . معرفي | خ . منهجي |
…………. | …………… | …………… | …………… | ……………. | ………… |
وقد كانت الأخطاء متنوعة ، وفي بعض الأوراق – كثيرة – تدعو إلى الاستغراب أحيانا . فقد يبدو من الطبيعي أن يرتكب المتعلم خطأ نحويا في الرفع أو النصب أو الجر. وقد يوظف كلمة لا يحترم فيها خصوصيتها اللغوية . وقد يخطئ في كتابة الهمزة على غير القاعدة المعروفة . وقد يقلب حرف التاء من المبسوطة إلى المربوطة دون مبررات . إلى غير ذلك من الأخطاء التي تعودنا عليها في الدروس ، أو في المراقبة المستمرة ، أو في الامتحان الإشهادي . لكن المثير في هذه التجربة أن الأخطاء المذكورة مرتبطة بطبيعة التعامل مع دروس اللغة . بحيث أن الخطأ عند المتعلم لا يقف عند حدود السهو أو نسيان القاعدة اللغوية ، و إنما له أبعاد بيداغوجية يتحمل فيها المدرس قدرا غير يسير من المسؤولية . الملاحظ أن هذه العناصر اللغوية ذات مرجعيات متعددة . فمنها ماله علاقة بعلوم البلاغة العربية. ومنها ما يرتبط بالنحو العربي التقليدي والنحو المعاصر . ومنها ما يرتبط بعلم العروض . إضافة إلى تلك الظواهر الصرفية والصواتية ، والأسلوبية .ناهيك عن ذلك الجانب المتعلق بالسرديات .
ولا أبتغي الدخول في متاهات المشاكل المتعلقة بالغلاف الزمني والأعذار المتعلقة بالاكتظاظ البشري داخل الفصل . لأنني أِؤمن بأن المدرس المتسلح بعدة معرفية وبيداغوجية فعالة ، ومتنوعة ، لايختفي وراء هذه المبررات . إنما يبحث عن الطرق والآليات الممكنة لتشغيل التلاميذ ، وتوزيع الأدوار مهما كانت الظروف المادية والبشرية . بل أكثر من ذلك ، يجب على المدرس ( الباحث ) أن يفكر في شروط التعلم بالتركيز على :
- استثمار المكتسبات السابقة في أنشطة لها معنى
- خلق وضعيات مناسبة للتعاون الجماعي
- مواجهة المشكلات ، والبحث عن الحلول بكل طواعية ويسر، وبأقل عناء وجهد
- الانفتاح على مقاربات نظرية ناجعة . مثل البيداغوجيا الفارقية ، نظرية الذكاءات المتعددة ، البيداغوجيا العلاجية ، المقاربة الإيجابية ، وغيرها من المباحث التربوية
من هنا برزت بعض الملا حظات المثيرة ، والتي يمكن اعتبارها فرضيات ضرورية ، من شانها أن تضيء لنا طبيعة المشكلة:
- وجود علاقة ميكانيكية بين المثيرات والاستجابة عند المتعلمين أثناء الاشتغال على ظاهرة لغوية معينة
- وجود تشتت ذهني لدى المتعلم بسبب تجزيء وحدات التعلم .
- عدم وجود تكامل بين المكتسبات اللغوية وما يتطلبه حل المشكلات من جهد عقلاني وحسحركي منظمين.
- · غياب منطق الاستثمار وفق استراتيجية مضبوطة .
- · عدم ضبط آليات التقويم والدعم .
- · بعد الأمثلة أو النصوص المتعلقة بالظواهر اللغوية عن عمليات التدرب والتجريب في سياقات مشابهة آو مغايرة
- · التعامل الكمي مع القواعد في غياب إجراءات التصنيف والمقارنة والمشابهة والتوظيف الصحيح
- · تغييب مبدأ الإبداعية في الممارسة العملية . بحيث ينظر المدرس دائما إلى المتعلم كمستهلك للمعرفة وقاصر عن الابتكار والاجتهاد والإبداعية.
- عدم تحويل الدرس اللغوي إلى مناسبة لدفع التلاميذ إلى إتقان سلوك القراءة بشروطها التلفظية وقواعدها الصوتية ، خاصة وأن المقرر الدراسي حابل بالنصوص الشعرية والقصصية والمسرحية التي تفرض قراءة شبه احترافية ، تراعي ما يستدعيه الخطاب الأدبي من نبر وتنغيم وإدغام ووقف عروضي آو دلالي .
- · عدم تحسيس المتعلم بأهمية التدرب على إنتاج أشكال خطابية ، أو فتح باب المنافسة في المحاولات القصصية والشعرية مهما كانت نسبة الجودة والرداءة فيها .
- التعامل مع الدرس اللغوي في معزل عن مكون النصوص والمؤلفات ، والكتابة الإنشائية
علاقة الدرس اللغوي بمختلف مكونات اللغة العربية
إن مجرد التفكير في المسار المنهجي والديداكتيكي لمادة اللغة العربية بمختلف مكوناتها ، سواء تعلق الأمر بدرس النصوص ( ظواهر بلاغية ، إيقاعية ، نحوية ، صرفية ، تركيبية )أو درس المؤلفات الذي له خصوصيات سردية ، حوارية ، فكرية ، ثقافية ، يعتبر في واقع الأمر دعوة إلى إعادة النظر في تلك الممارسات العفوية ، من أجل بناء تصور بيداغوجي صحيح يناسب خصوصية المادة ، وينفتح على مستجدات النظريات التربوية. فالمفاهيم الحماسية المشحونة بالإغراء ، وكذلك تقليدية الإلقاء بالكم المعلوماتي على حساب التعلم الذاتي، والاحتفاء بالتوصيل أكثر من التواصل ، كلها أساليب لم تعد تجدي نفعا في عصر الثورة المعلوماتية ، وأمام متعلم تتجاذبه ثقافة الصورة والأنترنيت . كما أن الوقوف عند حدود المنفعة ( الامتحان ) أو المراهنة على الذاكرة وحدها ، أو تلقين القواعد بشكل مسطح وآلي بعيدا عن التوظيف الدلالي والتحويل الديداكتكي ، قد أضعف جاذبية التعلم عند التلميذ ، وقتل فيه روح المبادرة والرغبة في الملاحظة والتجريب .
يجب أن يتحول إذن درس اللغة العربية إلى مشروع تربوي يجمع بين ثوابت المادة وضرورة البحث البيداغوجي حتى تتضح طبيعة الأدوار والمهام . من هذا المنطلق يتحقق الاقتناع بوجوب نقل الدرس اللغوي من ظاهر التصور النظري إلى إجرائية التحقق بواسطة آليات الفهم والتطبيق والاستثمار ، مع مراعاة المبررات النفسية والاجتماعية والمعرفية ، سواء من داخل الدرس اللغوي أو من خارجه. ثم إن المتعلم مطالب بتعديل معرفته اللغوية من التنميط الاستهلاكي إلى التجريب . ولا يخفى أن تداخل دروس اللغة بدرس النصوص والمؤلفات ودرس الإنشاء والتعبير يطرح ضرورة التفكير في الكفايات الثقافية والتواصلية والمنهجية . بحيث أصبح مبد أ التكامل بين وحدات اللغة العربية يفرض التفكير في التنسيق بين التعلمات و اعتماد طرائق تربوية بديلة قصد إرساء المكتسبات القبلية ومختلف الموارد .
هكذا تولد لدينا التفكير في ملامسة تدريسية الدرس اللغوي كقضية تربوية ، وفي شكل عرض تدخلي يسعى إلى تجديد الممارسة التربوية عموما ، وكذا تفعيل المسار المنهجي لتدريس علوم اللغة ، وإعادة النظر في تلك الممارسات العفوية ، في أفق تأسيس تصور جديد يراهن على استثمار المكتسبات السابقة ، ومواجهة المشكلات ، وإعطاء الحق للمتعلم في الخطأ باعتباره دليلا على إيجابية التعلم ، والتحرر في التفكير. ثم إن تعلم الدرس اللغوي
لا ينبغي أن يقف عند حدود المنفعة (الامتحان) . إنه نشاط مستمر ومتجدد يهدف إلى مبدأ تحقيق الرغبة في نقل التجربة من طابعها المعرفي الصرف إلى نشاط يقوم على مواجهة وضعيات إشكالية ، وإدماج عدة تعلمات لاستثمار مكتسبات معرفية ومهارية مختلفة .
لابد إذن أن يتأسس العمل على التنشيط والفاعلية ، وتنمية روح المبادرة ، والتعاون الجماعي ، اعتمادا على قناعة الانفتاح على مقاربات بيداغوجية فعالة ، تأخذ بعين الاعتبار الفوارق والذكاءات . كما تراعي حلولا علاجية مبنية على فعل الإنصات ، وروح المبادرة ، وتقبل النقد، خاصة في ظرفية عالمية تشهد انفجارا معلوماتيا ساهم في تغيير علاقة الإنسان بالمعرفة من حيث طريقة تحصيلها ، وكيفية توظيفها في وضعيات مختلفة. وإذا كان تجديد المعرفة يفرض الانطلاق من التعليم إلى التعلم ، والإيمان بمحورية المتعلم ، فإن ديداكتيك الدرس اللغوي يطرح أمام الفاعل التربوي سبحة من الأسئلة حول الأدوات المعرفية والمنهجية ، و آليات تحويل هذا المكون التعليمي من مرحلة الاكتساب إلى مرحلة الاستثمار على مستوى قراءة النصوص الإبداعية ، وتذوقها ،ثم تحليل مكوناتها الفكرية والفنية والجمالية . ولدينا أمل كبير في أن تكون هذه المقاربة قيمة مضافة إلى تلك الجهود المشكورة لكثير من الأساتذةوالباحثين في الحقل التربوي .
على ضوء هذه الحقائق التربوية ، لا بد للمدرس من تجديد معرفته ، والانفتاح على الحقول المعرفية الأخرى وخاصة الدرس اللساني الحديث وما يمدنا به من أدوات منهجية ، وقضايا لها علاقة بالجانب الأسلوبي والصواتي والتركيبي . إن ظاهرة الانفجار المعرفي قد غيرت علاقة الإنسان بالمعرفة وطريقة امتلاكها وتوظيفها ، وقوانين إنتاجها . ولقد آن الأوان للتخلص من تلك العقلية التي تكرس طريقة الإملاء الجاهز. فما أحوجنا إلى تعلم يحس فيه المتعلم بفائدة التعلمات ، ويشعر بقيمة المعلومة أو الفكرة ، حين يجدها ذات صلة بواقعه النفسي وأفاق تفكيره ، ومدى قدرته على الاكتساب والتطبيق والإنتاج . وبهذه الخطوات ستزداد عنده الرغبة في التعلم ، كما سيصبح سباقا إلى اتخاذ المبادرة ، والقيادة الذاتية .