ملخص شامل لعلم الاجتماع الحضري

ملخص علم الاجتماع الحضري

مُساهمة من طرف oussamagic 

الفصل الأول:

مدخل لدراسة المجتمع المحلي

1 – جوانب من التراث السوسيولوجي للمفهوم:

ارتبط مفهوم المجتمع المحلي شأنه في ذلك شأن معظم المفاهيم السوسيولوجية التي اشتقت منه لغة الحياة اليومية بمعاني كثيرة ومتعددة.
وتنقسم التعريفات إلى قسمين رئيسيين:
تعريفات وجهات النظر التقليدية أو الكلاسيكية:
تعريف روبرت ماكيفر : المجتمع المحلي هو وحدة اجتماعية تجمع بين أعضاءها مجموعة من المصالح المشتركة، وتسود بينهم قيم عامة وشعور بالانتماء، بالدرجة التي تمكنهم من المشاركة في الظروف الأساسية لحياة مشتركة.
تعريف روبرت بارك: “أن المجتمع المحلي في أوسع معاني المفهوم يشير إلى دلالات وارتباطات مكانية جغرافية، وأن المدن الصغرى والكبرى والقرى بل والعالم بأسره تعتبر كلها رغم ما بينها من الاختلافات في الثقافة والتنظيم والمصالح.. الخ، مجتمعات محلية في المقام الأول”.
تعريف لويس ويرث: أن المجتمع المحلي يتميز بما له من أساس مكاني إقليمي يتوزع من خلاله الأفراد والجماعات والأنشطة، وبما يسوده من معيشة مشتركة تقوم على أساس الاعتماد المتبادل بين الأفراد، وبخاصة في مجال تبادل المصلحة.
تعريف آموس هاولي: “إن التحديد المكاني للمجتمع باعتباره منطقة جغرافية أو مساحة مكانية يشغلها مجموعات من الأفراد محاولة تعسفية للتعريف, وإنه من الملائم أن ننظر إلى المشاركة في الإيقاع اليومي والمنتظم للحياة الجمعية على أنها عامل أساسي يميز المجتمع المحلي ويعطي لسكانه طابع الوحدة، إن المجتمع المحلي أكثر من مجرد تنظيم لعلاقات التكافل بين الأفراد، وأن الحياة الجمعية تشتمل على قدر من التكامل السيكولوجي والأخلاقي إلى جانب التكامل التكافلي أو المعيشي، وأنه يتعين على الباحث أن ينظر إلى الجوانب السيكولوجية والأخلاقية على أنها مظاهر متكاملة، وليست مختلفة أو متميزة لحياة المجتمع المحلي، خاصة وأن الأنشطة المعيشية وما يرتبط بها من علاقات تكافلية تتداخل وترتبط بمجموعة المشاعر والأحاسيس وأنساق القيم والمعايير الأخلاقية وغير ذلك من موجهات السلوك والتفاعل اليومي”.
تعريف تالكوت بارسونز: المجتمع المحلي هو جمع أو حشد من أفراد يشتركون في شغل منطقة جغرافية أو مساحة مكانية واحدة كأساس لقيامهم بأنشطتهم اليومية.
تعريف بلين ميرسر: المجتمع المحلي هو تجمع لأشخاص تنشأ بينهم صلات وظيفية، ويعيشون في منطقة جغرافية محلية خلال فترة محددة من الزمن، كما يشتركون في ثقافة عامة، وينتظمون في بناء اجتماعي محدد ويكشفون باستمرار عن وعي بتميزهم وكيانهم المستقل كجماعة.
تعريفات وجهات النظر المتطورة أو الأكثر حداثة.
قدم موريس شتاين عدداً من الانتقادات التي وجهها للتطور التقليدي للمفهوم “إن انتشار الحضرية أفقد الأفراد إحساسهم وشعورهم بالمجتمع المحلي كما أن مقومات التنظيم الاجتماعي التقليدي في كثير من المجتمعات المحلية الأمريكية قد تقوضت نتيجة لتعرضها للمؤثرات الخارجية التي أفقدت الأفراد شعورهم بالانتماء إلى مجتمعاتهم المحلية، والتي مكنت من إحلال الانقسامية والجزئية محل الشمولية فطورت مجتمعات محلية فرعية –معادية لبعضها البعض- بدلاً من الشعور التقليدي بالانتماء والتعاون المحلي، وباختصار فإن القومية والعالمية قد غدت سمة العصر التي تؤكد وباستمرار خاصية الاعتماد المتبادل بدلاً من خاصية الاستقلالية والاكتفاء الذاتي، التي كانت من أهم مقومات التصور التقليدي لمفهوم المجتمع المحلي إن تقدم وسائل النقل والاتصال وما ترتب عليه من اعتماد متبادل بين المجتمعات المحلية ارتبط بالعديد من المصاحبات النفسية التي أدت إلى ضياع أو فقدان المجتمع المحلي السيكيولوجي.
ويشارك شتاين في تصوره السابق كل من ملفين فيبر ورونالد وارن فقد انتقد فيبر تصور أن المجتمع المحلي وحدة اجتماعية ذات ارتباط وتحديد مكاني، إن إنسان العصر الحديث، وبخاصة سكان الحضر يعيش في مجتمعات محلية عديدة كما أن هذه المجتمعات التي يرتبط بها وينتمي إليها لم تعد مجرد مكان محدد يلتزم به كأسلافهم بل أصبح أكثر ارتباطاً بمجتمعات المصلحة المتنوعة مهما اختلف أساس هذه المصلحة، ولم يعد الأفراد بحاجة إلى التركيز المكاني، ومن ثم لم تعد الحدود المكانية مؤشراً هاماً للعلاقات الوظيفية أو أساساً للنظام في المجتمع.
ويعتبر تعريف رونالد وارن من أحدث التعريفات “إن مصطلح المجتمع المحلي يتضمن بعداً سيكولوجياً وآخر جغرافي وثالث سوسيولوجي فهو من الناحية السوسيولوجية يتضمن المصالح المشتركة والخصائص المميزة للأفراد والروابط المشتركة بينهم كما هو الحال بالنسبة لمجتمع المصلحة، كما أنه من الناحية الجغرافية يشير إلى منطقة بعينها يحتشد فيها جماعات من الإفراد ومن وجهة النظر السوسيولوجية يرتبط البعدان السيكولوجي والجغرافي معاً ليشير المصطلح إلى المصالح المشتركة وإلى أنماط متميزة من السلوك يختص بها جماعات بعينها من الأفراد نظراً لاشتراكهم في نفس المنطقة أو المكان.
ملاحظة هامة: ارتباط المفهوم واستخدامه في علم الاجتماع من تصورين مختلفين فمن ناحية نجد تصوراً يفيد الإشارة إلى جمع بشري محدد يشغل منطقة جغرافية معينة، ويتخذ من الاشتراك في المكان الواحد أساساً ترتكز عليه كل محاولة للتعريف أو التنميط أو الدراسة كما ينظر إلى البعد المكاني باعتباره متغيراً مستقلاً يفسر ما لنماذج المجتمع المحلي المختلف من خصائص متميزة ومن ناحية أخرى نجد تصوراً آخراً يؤكد البعد السيكولوجي ويعتبر الاتصال والإجماع أو الاتفاق شرطاً ضرورياً أو مقوماً أساسياً من مقومات المجتمع المحلي، ومن ثم يصبح المجتمع المحلي عبارة عن كل أخلاقي تندمج فيه عقول الأفراد، ومن خلاله فقط، تتاح الفرصة للأفراد للتعبير عن قدراتهم وإمكاناتهم بطريقة كلية وملائمة.

2 – محاولة لإعادة التعريف: وجهة نظر:

هناك اعتبارين تلقي الضوء لإعادة التعريف:
الاعتبار الأول: يختص بتقييم البعد المكاني:
المجتمع المحلي هو: “تجمع إنساني تقوم بين أعضائه روابط الاعتماد الوظيفي المتبادل ويشغل منطقة جغرافية محددة ويستمر خلال الزمن عن طريق ثقافية مشتركة تمكن الأفراد من تطوير أنساق محددة للاتصال والإجماع فيما بينهم كما تيسر لهم سبل التفاعل وتنظيم أوجه نشاطاتهم اليومية”.
الاعتبار الثاني: يدور حول تطبيق المصطلح واستخداماته:
أ – كثيراً ما يشار إلى بعض المؤسسات على أنها مجتمعات محلية مثل “السجون والمستشفيات العقلية والأديرة والملاجئ والثكنات العسكرية” ومن اللائم أن نطلق على هذه الكيانات اسم “المؤسسات الشمولية العامة” ففي مثل هذه التسمية ما يشير إلى أنه بإمكان الفرد أن يقضي حياته بأكملها بين جدرانها.
ب – يشار في بعض الأحيان إلى بعض الوحدات الاجتماعية ذات الأساس المكاني الأكثر اتساعاً كالأقاليم والولايات والدول بل والعالم بأسره على أنها مجتمعات محلية وكثيراً ما نقرأ أو نسمع عن “مجتمع الأطلنطي، أو عن المجتمع العالمي” ويعكس استخدام المصطلح بهذا المعنى نفس الفكرة المألوفة عن “مجتمع المصلحة”، أو “المشاركة في وجهات النظر والاهتمامات”.
ويجب التأكيد على البعد الزماني إلى جانب التأكيد على البعد المكاني، بمعنى أن يشير مفهوم المجتمع المحلي إلى أن “مناطق بعينها ذات تفاعل يومي مستمر ومنتظم”.
3 – عناصر التعريف:
أ – عنصر الإقليم أو المكان المحدد: يشير إلى منطقة محددة ذات خصائص طبيعية أو مصطنعة فريدة ومتميزة يتوافق لها بالضرورة ما يطوره المجتمع من نسق خاص للتنظيم الاجتماعي، ويبدو من الصعب فهم وتفسير طريقة الحياة في المجتمع دون الرجوع إلى خصائص المكان كمتغير أساسي يميز المجتمعات المحلية عن بعضها البعض.
ب – خاصية الاستقلال والاكتفاء الذاتي:المجتمع المحلي عبارة عن جماعة مكتفية بذاتها من الأفراد، فيعتمد الأفراد على بعضهم البعض للقيام بالوظائف الأساسية كما ترتبط الأهداف الجمعية والنشاطات الفردية بتنوع واسع النطاق من الاحتياجات والمصالح والاهتمامات التي لا يمكن لمؤسسة أو تنظيم بعينة أن يواجهها أو يشبعها.
ج – خاصية الوعي الذاتي: وتعتبر من أهم الخصائص المميزة للمجتمع المحلي وتتضمن هذه الخاصية الاعتراف المتبادل بين الأفراد إلى جانب الشعور بالانتماء والتميز.
د – القيم والمعايير المشتركة: من أهم ما يميز المجتمع المحلي عن أشكال التنظيم الاجتماعي الأخرى ما يسوده من أنساق خاصة للقيم والمعايير إذ عادة ما يعاد صياغة الكثير من القيم المطلقة في الثقافة الكبرى في ضوء الرموز والأحداث ذات الدلالة والمغزى في السياق المجتمعي المحلي.
4 – مدخل متعدد الأبعاد لدراسة المجتمع المحلي: وجهة نظر:
أ – المجتمع المحلي كوحدة مكانية إقليمية:
أي أنه تجمع من أفراد يعيشون داخل منطقة جغرافية ذات خصائص معينة، وترجع أهمية هذا العبد المكاني إلى سببين رئيسيين أولهما أن العوامل المكانية تساعد في تفسير قيام المجتمع وبقائه وتنظيمه، وثانيهما أن أفراد المجتمع بما يطورونه من تنظيمات وميكانيزمات للتفاعل بينهم يعدلون وباستمرار من الوسط أو القاعدة المكانية التي يعيشون في إطارها وحدودها، معنى ذلك أن العلاقة جد وثيقة بين المكان وخصائصه ومتغيراته، وبين التنظيم الاجتماعي وطريقة الحياة التي يعيشها أفراد المجتمع.
ولعل السبب الرئيس لظهور المجتمعات المحلية يكمن في أن الإنسان لا يستطيع بحال من الأحوال أن يسمو أو يتجاوز حدود المكان أضف إلى ذلك أن إشباع الحاجات النفسية والاجتماعية للإنسان تتضمن بالضرورة الجوار أو الاقتراب المكاني.
موجز القول إن المتغيرات المكانية -سواء نظرنا إليها كمتغيرات مستقلة أو تابعة- عناصر أساسية لا يمكن إغفالها في الدارسة السوسيولوجية للمجتمع المحلي، وإن الاهتمام والتركيز على هذه المتغيرات كان سبباً في تطوير أحد المداخل الكبرى في دراسة المجتمع هو ما يعرف باسم المدخل الإيكولوجي، ومن علمائه المعاصرين آموس هاولي إذ يعرف المجتمع المحلي بأنه “تلك الرقعة المكانية التي يرتبط بها وفيها السكان والتي من خلالها يتم تكامل الأفراد مع بعضهم البعض استجابة لمتطلباتها اليومية وخصائصها”.
ب – المجتمع المحلي كوحدة للتنظيم الاجتماعي:
هناك ثلاثة مداخل:
1 – مدخل لدراسة المجتمع المحلي كجماعة اجتماعية.
2 – مدخل لدراسة المجتمع المحلي كنسق اجتماعي.
3 – مدخل لدراسة المجتمع المحلي كشبكة أو نسيج للتفاعل الاجتماعي.
يرجع تصور المجتمع المحلي كشكل من أشكال الجماعات الاجتماعية إلى هيللر حيث ذهب إلى أن للجماعة الاجتماعية عدداً من الخصائص الأساسية التي تعد من أهم مقومات بناء المجتمع المحلي، وهي احتوائها على تجمعات الأفراد وتحديدها لبناء الدور والمكانة وشمولها على مجموعة من المعايير التي يلتزم بها الأعضاء.
ويعد مدخل النسق الاجتماعي لدراسة المجتمع المحلي ترجمة معدلة لمدخل الجماعة الاجتماعية فالنسق الاجتماعي شأنه شأن الجماعة الاجتماعية يشتمل على أعضاء وبناء معياري ومحددات للدور والمكانة ومقاييس أو محكات للعضوية، ولو أن هذه المقاييس تأخذ في مدخل النسق الاجتماعي حدوداً اجتماعية ونفسية ومكانية في نفس الوقت ويعتبر رونالد وارن أحد مؤيدي هذا المدخل حيث يتصور المجتمع المحلي على أنه “نسق كلي يتكون من أنساق اجتماعية فرعية أصغر تقوم بدورها بعدد من الوظائف ذات الملائمة المكانية المتخصصة كالضبط والمشاركة والدعم والإنتاج والتوزيع والاستهلاك.. الخ”، ووفقاً لهذا المدخل يعتبر المجتمع المحلي الوحدة الأساسية للتنظيم الاجتماعي.
ويلتقي المدخل التفاعلي مع مدخل النسق الاجتماعي في نقطة هامة هي أن التفاعل لا يتم بين أفراد فحسب، بل يقع بين الجماعات والنظام والمؤسسات أيضاً، ولعل من أهم مشكلات هذا المدخل أن الظروف المحيطة بالمجتمعات المحلية في الوقت الراهن لا تتفق تماماً مع التعريفات التي حددت لمفهوم التفاعل من قبل الغالبية العظمى من علماء الاجتماع، فالتفاعل هو علاقة المواجهة المباشرة بين شخصين أو أكثر بحيث يتعين على كل فرد أن يضع الآخرين في اعتباره وتقديره عند قيامه بفعله، غير أن شمول أو احتواء كل أعضاء المجتمع في شبكة التفاعل على هذا النحو أمر يندر أن يتحقق إلا في أبسط المجتمعات المحلية وأصغرها حجماً خاصة وأن كبر الحجم وزيادة التعقيد وتنوع المصالح والاهتمامات قد تحول دون حدوث التفاعل على نحو مباشر وشمولي، ويميل بعض العلماء إلى الجمع بين مدخل الأنساق والمدخل التفاعلي، بحيث لا يقتصر تحليلهم إلى وحدات أو أنساق فرعية متفاعلة داخل المجتمع المحلي، ويشير رونالد وارن إلى محاور أفقية ورأسية للتفاعل أما المحور الأفقي فيتضمن علاقة الفرد أو الجماعة بالجماعة داخل مكان أو إقليم محدد، بينما يتضمن المحور الرأسي علاقة الفرد بالجماعات المحلية أو الأنساق الفرعية، أو علاقة الوحدات والجماعات المحلية بوحدات أو جماعات إقليمية أو قومية أكثر شمولاً، وباختصار يوفر هذا المدخل أداة تصورية أكثر ملائمة لوصف تفسير العلاقات المتداخلة بين مختلف الوحدات التي يتركب منها المجتمع المحلي.
الفصل الثاني
المجتمع الحضري كنموذج متميز للمجتمع المحلي مدخل نظري
1 – المجتمع المحلي الحضري بين ثنائية ومتصل: نماذج تصورية:
تعد محاولة تنميط المجتمعات المحلية وتحديد الخصائص المميزة لكل نمط محاولة قديمة بدأها الحاكم الصيني كونفوشيوس وفلاسفة اليونان مثل أفلاطون وأرسطو ومفكرو العصور الوسطى كالقديس أوغسطين وابن خلدون، وقد استمرت هذه المحاولة في علم الاجتماع ظهر ذلك واضحاً في أعمال كل من تونييز وبيكر ودوركايم وسبنسر وفيبر، ولقد كان من أهم الأفكار التي ارتبطت بهذه المحاولات فكرة “النموذج المثالي” و “النمط التركيبي” للمجتمع المحلي والتي كانت تمثل حجر الزاوية في “نظريات التعارض” التي اشتهرت بثنائيتها الريفية الحضرية، وفكرة “المتصل الريفي الحضري” كأداة تصورية متطورة لمعالجة المجتمع الحضري الحديث.
المقصود بالنموذج المثالي: تلك الصياغة التصورية أو البناء العقلي لصيغة معينة تشمل عناصر مميزة لفئة محددة من الظواهر تستخدم في التحليل الاجتماعي وتعتمد العناصر التي يتم تجريدها في هذا الصدد على ملاحظات مستقاة من الظواهر الملموسة التي أمكن دراستها، ومن خصائص هذا البناء النظري أنه لا يكون مطابقاً تماماً لأية ملاحظة إمبريقية مفردة ويرجع استخدام الفكرة إلى ماكس فيبر الذي طور “النموذج المثالي” كمنهج أو أسلوب يستخدمان في الوصف والمقارنة واختبار الفروض المتصلة بالواقع الإمبريقي، ومن أمثل الأنماط أو النماذج المثالية نجد “المنظمة الدينية” و “الإنسان الاقتصادي” و “الإنسان الهامشي” و “المجتمع المحلي” و “المجتمع المعقد” كانت كلها أنماطاً قابلة للتجريب والاختبار عند ماكس فيبر، ولم تكن بحالة من الأحوال صوراً واقعية أو تعبيراً عن الحقيقة، والنموذج المثالي ليس مثالياً بالمعنى الأخلاقي، كما أنه لا يعبر عن “المتوسط” بالمعنى الإحصائي، بل هو مثالي بالمعنى المنطقي، أي كبناء عقلي افتراضي نستطيع من خلاله تنظيم الواقع عن طريق عزل أو إبراز عناصر الظواهر الاجتماعية ووضعها داخل نسق متسق ومنظم للعلاقات.
ويقوم النموذج المثالي بوظيفتين أساسيتين:
الأولى: كحالة أو نموذج محدد يمكن مقابلة الظواهر الملموسة بها، مما يعين على التصنيف والمقارنة.
الثانية: المعاونة في تطوير تعليمات نموذجية تشكل أساس التفسير السببي للأحداث التاريخية.
النمط التركبي: هذا المصطلح أدخله هوارد بيكر كصياغة بديلة للنموذج المثالي ويتمثل الاختلاف بينهما في أن النموذج المثالي صيغة تصورية تسبق البحث، بينما يعتبر النمط التركيبي نتيجة للبحث ذاته، لذلك فإن التركيب يجب أن تفهمه في ضوء مشكلة معينة وأن يصوب نحو فرض واضح، ويفيد النمط التركيبي في أنه يوفر للباحث وسائل لترتيب البيانات كما يسهل عملية التعميم والمقارنة، ولا يعتبر النمط التركيبي وصفاً حرفياً لنسق الظواهر التي يدركها الباحث فهو مجرد نموذج مبسط للحقيقة والواقع.
كما أشار ماكيني إلى أن النمط التركيبي أداة يستخدمها الباحث لاستخلاص ما هو لازم من تعليمات عن المجتمعات المحلية إذ على الرغم من أن لكل مجتمع خصائصه الفردية إلا أن الباحث يستطيع باستخدام هذه الأداة التصورية أن يتجاهل هذه الخصائص الفريدة مركزاً فقط على الخصائص العامة والمشتركة بين المجتمعات التي تندرج تحت نمط واحد بعينه، كما أن الباحث يستطيع في نفس الوقت أن يجري المقارنات الهامة بين أنماط المجتمعات بعضها البعض، إلى جانب أن يصبح بمقدوره أن يكشف عن معدلات التغير التي تطرأ على المجتمع حال انتقاله من نمط إلى آخر، وهذا ما طبقته حرفياً نظريات التعارض باستخدامها لتلك الثنائية المعرفة بين النمط الريفي والنمط الحضري وأيضاً ما اتبعه أصحاب مدخل المتصل الريفي حضري في تحليلهم لخصائص المجتمع الحضري المعاصر.
وتستند فكرة “المتصل” إلى تصور أن أي خاصية للظاهر تمثل بدرجة معينة، وأن هناك تغيرات متدرجة في حجم وأهمية هذه الخاصية على المستوى الإمبريقي، ويشير “المتصل الريفي الحضري” بالتالي إلى وجود نوع من التدرج يقوم بين خصائص الريفية والحضرية أشبه بخط مستقيم، بحيث تتزايد درجات أي من هذه الخصائص أو تقل بنسب متفاوتة بالنسبة لواقع كل مجتمع على حدة، ولذلك يكون من الممكن أن نصنف المجتمعات المحلية وفقاً لوقوع خصائصها على نقاط معينة على طول هذا المتصل، وتستند فكرة المتصل الريفي حضري على حقيقة أن الواقع الإمبريقي لمجتمعات اليوم لا يؤكد بالضرورة وجود نمط ريفي بحت أو حضري بحت للمجتمع المحلي، بل هناك نوعاً من التداخل بين خصائص النمطين.
إن جانباً لا يستهان به من التراث العلمي المرتبط بالمجتمع المحلي الحضري، قد استوعب عدداً من المحاولات التي بذلت لإيجاد أو تحديد بعض الأبعاد الأساسية للمقارنة، وبالتالي لإبراز التعارض بين نموذج المجتمع المحلي الحضري بنموذج آخر مقابل له، وقد عرفت هذه المحاولات باسم نظريات التعارض، تصورت ثنائية لنموذجين متعارضين للمجتمع المحلي كان النموذج الحضري أحد قطبيها، وبطبيعة الحال استندت هذه المحاولات على أفكار “النموذج المثالي” و “النمط التركيبي” و “المتصل الريفي حضري” في إجرائها لهذه المقارنة ويكفي أن نستعرض هنا محالة أو محاولتين بارزتين كمثال يوضح كيف استخدمت هذه الأفكار كأدوات تصورية لتحليل ودراسة المجتمع الحضري، ولتوضيح ما ترتب على ذلك من نتائج نظرية ومنهجية لمعالجة الموضوع.
أ – فيرديناند تونييز، والنموذج المثالي للمجتمع:
يعد فيرديناند تونييز واحداً من رواد “حركة التنميط” في علم الاجتماع، فقد كان لمؤلفه المشهور المجتمع المحلي والمجتمع أثره الواضح في أعمال كل من هوارد بيكر ودور كايم وردفيليد، وغيرهم ممن استطاعوا تطوير فكرة “النمط التركيبي” كأداة تصورية على درجة عالية من الكفاءة لتحليل الأنساق الاجتماعية.
ترتكز نظرية تونييز على افتراض أساسي مؤداه أن العلاقات الاجتماعية أمر يرتبط بالإرادة الإنسانية، بمعنى أنها توجد فقط بفضل إرادة الأفراد أن توجد، ومع ذلك تختلف دوافع أو أسباب الارتباط بالآخرين اختلافاً كبيراً من فرد لفرد، ومن موقف لآخر، ففي بعض الأحيان يرتبط الأفراد بعضهم مع البعض على أساس من إرادتهم “الطبيعية” أو الأساسية، فتكون العلاقات القادمة بينهم غاية أو هدفاً في ذاتها، وفي أحيان أخرى يرتبط الأفراد مع بعضهم البعض لتحقيق هدف أو مجموعة أهداف معينة، ومن ثم يكون أساس العلاقة “إرادة عقلانية رشيدة”، ويكون نمط العلاقات بينهم وسائل لتحقيق أهداف معينة.
وللإرادة الطبيعية أبعاداً كثيرة، إلا أن “الفهم” و “الوحدة” هما أهم مقوماتها، ذلك لأن في أنساق العلاقة القائمة على مثل هذا النوع من الإرادة يتحقق لكل فرد درجة عالية من فهم الآخرين، بحيث تصبح رفاهية ورعاية الغير شغله الشاغل، كما يتحقق قدراً كبيراً من وحدة الأهداف والقيم والمعتقدات، تلك الوحدة التي ترتكز على المشاركة في نفس التقاليد والتجارب والخبرات، ومن ثم تصبح العلاقات المنبثقة عن الإرادة الطبيعية هدفاً في ذاتها وليست وسائل لأهداف أخرى، وتعتبر الأسرة والجماعات القروية وجماعات أصحاب الحرف العامة أمثلة واقعية لأنساق العلاقة القائمة على الإرادة الطبيعية.
وفي الطرف المقابل، تقرر الإرادة العقلانية أهمية كبرى لوسائل تحقيق الغايات المرغوبة ولذلك تجد الفرد في نسق العلاقات القائمة على مثل هذا النوع من الإرادة يدفع وباستمرار نحو مصالحه الخاصة ورفاهيته، تراه يوطد علاقاته بالآخرين ويؤسس أفعاله وسلوكياته على نوع من “التحكمية” و “العمدية” وفي ذلك ما يشير إلى قدرة الفرد على الاختيار بين الوسائل والغايات بعناية وحكمة وعقلانية، وتعتبر “الإرادة العقلانية”، هي النسق المسيطر على العلاقات التي تقوم بين رجال الأعمال وكبار السن والعلماء والطبقات ذات المستويات التعليمية العليا، كما أنها تشير في الوقت نفسه إلى نمط التفاعل الذي يسيطر على حياة ساكني الحضر.
ومن هذا المنطق تصور تونييز نسقين من العلاقات الاجتماعية يقوم كل منهما على أساس مختلف من الإرادة:النسق الأول:”المجتمع المحلي” النسق المقابل: “المجتمع أو الرابطة”، ويختص كل من النسقين بعدد من السمات المميزة التي تقف على طرفي نقيض من بعضها فالاعتماد والعون والدعم المتبادل إلى جانب الارتباط العاطفي الوثيق والمتبادل، والالتزامات الشاملة، ونسق السلطة الذي يرتكز على عوامل السن والحكمة والقوة الخيرة، هي أهم ما يميز نسق العلاقات الاجتماعية في “المجتمع المحلي” وفي هذا الموقف يربط بين الأفراد التقاليد المقدسة وروح الأخوة التي تنشأ عن روابط الدم والموقع المشترك إلى جانب روابط العقل وفي هذا الصدد يذكر تونييز:
“يشير المجتمع المحلي الذي يقوم على روابط الدم إلى وحدة “الوجود أو الكيان” ويتميز في الوقت نفسه عن المجتمع المحلي الذي يقوم على أساس الموقع المشترك، وعن المجتمع المحلي الذي يقوم على أساس روابط العقل، أو الذي يشير إلى التعاون والعمل المنسق لإنجاز أهداف مشتركة، إن مجتمع الموقع المشترك يمكن تصوره كمجتمع للحياة الفيزيقية، كما يعبر مجتمع الروابط العقلية عن مجتمع الحياة العقلية، وترتبط الأشكال الثلاثة فيما بينها لتقدم أصدق وأعلى شكل من أشكال المجتمعات البشرية”.
وعلى عكس ما هو قائم في المجتمع المحلي فإن أفراد المجتمع يبدون أكثر انعزالاً لتصل “الفردية” إلى أقصى درجاتها، ولذلك فإنه من النادر أن توجه مصلحة “المجتمع” تصرفات الفرد وأفعاله، بل توزن كل الأفعال بميزان ما تعود به من منفعة للفرد، ولهذا كانت كل العلاقات التي تقوم بين الأفراد ذات طابع تعاقدي وانقسامي تشتمل على تبادل السلع والخدمات والأموال وسيادة قانون الالتزام، ومن المتصور في نظر تونييز أن يتميز “المجتمع” بحالة مستمرة ومتصلة من التوتر، ولا يمكن تجنب الصراع الصريح بين الأفراد إلا عن طريق العرف والتشريع والرأي العام.
يبدو أن تونييز كان مهتماً بصفة أساسية بتحليل العلاقات الاجتماعية، ومع ذلك يبدو واضحاً أيضاً أن لمفهومي “المجتمع المحلي” و “المجتمع” إمكانية ملحوظة للتطبيق على دراسة الأشكال المختلفة للتنظيم الاجتماعي، ونجد في الأسرة وما ينشأ بداخلها من علاقات بين أعضائها أبرز الأمثلة وأوضحها على علاقات “المجتمع المحلي” بالمعنى الذي حدده تونييز إن هذا النوع من العلاقات الأسرية يستند في الأساس على العواطف والفهم –أي على الإرادة الطبيعية- وتنأى تماماً عن كل رغبة في تحقيق هدف معين أو مصلحة خاصة، كذلك تعبر “المجاورات” والقرى والمدن الصغرى أمثلة واضحة لعلاقات المجتمع المحلي، وتمثل المدن الصغرى بصفة خاصة أكثر أشكال المجتمع المحلي تعقيداً أنها إلى جانب القرية تظل محتفظة ببعض الخصائص المميزة للأسرة ولو أن القرية تتمثل أكثر هذه الخصائص، بينما تبقى المدينة الصغيرة على عدد أقل منها –أي من هذه الخصائص- وفي الطرف المقابل تمثل المدن الكبرى والعواصم القومية والمتروبوليس ما أسماه تونييز “بالمجتمع ” أو “الرابطة” ففي مثل هذه التنظيمات يكون للنقود ورأس المال أهمية مطلقة، حيث يكون التأكيد واضحاً على إنتاج السلع والأرباح والمعرفة العلمية التي تستخدم لتحقيق أعلى مستويات الكفاءة والعقلانية، حيث تكون لعقلية الرأسمالي أو رجل الأعمال الغلبة والسيادة، بالإضافة إلى أن تونييز قد تصور أن يرتبط نموذجا التنظيم “المجتمع المحلي و المجتمع أو الرابطة” بنموذجين مختلفين للقانون، حيث يستند الضبط الاجتماعي في تنظيم “المجتمع المحلي” على الطرائق الشعبية والأعراف والعادة التي تختص في نظر الأفراد بصدق أبدي سرمدي، ولا يمكن أن تفقد ما لها من قوة رابطة،إن قانون المجتمع المحلي بهذا المعنى يتمثل في ضبط الكل أو المجموع وسيطرته على أجزائه، فمصالح الأسرة أو القرية أو المدينة الصغيرة تحتل مركز الصدارة والغلبة على كل مصلحة فردية، أما قانون “المجتمع” أو “الرابطة” فيتميز بما له من طابع علمي عقلاني ويبتعد كل البعد عن الغيبيات والعقيدة والتقليد،فهو يمثل اتفاقاً عقلانياً رشيداً بين الأفراد كما أن وظيفته الأساسية تدعيم الحقوق والواجبات والالتزامات، أو بعبارة أخرى هو –أي قانون المجتمع أو الرابطة- شكل من أشكال العقد، فلا يتمسك به الأفراد ولا يتمثلون له إلا لأن نفعهم ومصلحتهم تحتمان هذا التمسك والامتثال.
ملاحظات على موقف تونييز:
1 – من النادر أن يتحقق تصور المجتمع أو الرابطة، بالمعنى الذي حدده لكل منهما في عالم الواقع، وإنما كانا نماذج مثالية تستخدم فقط كمستويات أو أدوات تصورية تصنف من خلالها الظواهر الامبيريقية.
2 – قصد تونييز أن يكون إطاره التصوري السابق ذو طابع دينامي، أي أن يقدم من خلال هذا الإطار نظرية عن التغيير الاجتماعي والثقافي، لقد أشار أكثر من مرة إلى أنه “بمرور الوقت” تحل علاقات المجتمع أو الرابطة محل علاقات المجتمع المحلي، وأن الإرادة الطبيعية ستفسح المجال شيئاً فشيئاً للإرادة العقلانية” وبعبارة أخرى قدم تونييز بتصوره السابق تفسيراً اقتصادياً للتغيير الاجتماعي والثقافي حيث يؤكد أن ظهور الرأسمالية وما صاحبها من رغبة جامحة وحب لجمع الأموال وزيادة الأرباح كان عاملاً أساسياً لأفول المجتمع المحلي وما ارتبط به من قيم وإيديولوجيات، وبالتالي لسيطرة القيم المرتبطة بالتجارة والرأسمالية ولذلك سيصبح التجار والرأسماليون “السادة الطبيعيين في المجتمع” أولئك الذين دفعوا وباستمرار لهذا التحول الخطير من “المجتمع المحلي” إلى مجتمع “الرابطة”.
ب – سوروكين-زيمرمان والثنائية الريفية الحضرية:
تتلخص محاولتهما في نظرتها إلى “المهنة” على أنها تمثل المحك الأول والأساسي لما بين نموذجي المجتمع من فروق واختلافات إذ يرتبط هذا الاختلاف الأساسي بسلسلة أخرى من الاختلافات أو الخصائص المميزة، وتمتد هذه الخصائص إلى جانب اختلاف المهنة على مدى سبعة أبعاد للمقارنة هي:
1 – المهنة:
تتمثل الخاصية الأولى والأساسية للمجتمع الحضري في أنه جمع من أفراد يشتغلون أساساً بأعمال التجارة والصناعة والحرف والإدارة وغير ذلك من الأعمال غير الزراعية، وفي مقابل ذلك يغلب العمل الزراعي على المجتمع الريفي، الذي يتركب من جموع من الفلاحين (الزراعيين) وأسرهم، إلى جانب عدد قليل جداً من المشتغلين بالأنشطة غير الزراعية، ويترتب على هذا الاختلاف فروق عديدة بين المجتمعين من أهمها ما نجم عن العمل الزراعي من ارتباط شديد بالأرض والجماعات القرابية، ابتعاد واضح عن التخصص والتقسيم الدقيق للعمل، ونظرة ثابتة لا تتغير إلى الموقف الكلي للحياة يتوارثها الأفراد جيلاً بعد جيل، ثم أخيراً عدم وجود فواصل دقيقة بين حياة العمل وحياة الفرد أو الأسرة، وعلى العكس من ذلك، نجد مجموعة من النتائج المعاكسة ترتبت على طبيعة أنساق المهنة في المجتمع الحضري من أهمها: انفصال جماعات المهنة عن الجماعات القرابية، وانفتاح الأفراد على “عوالم” مهنية مختلفة ومتعددة، والتخصص الدقيق والمتقن في مجال العمل، وظهور معايير وأبعاد جديدة لتحديد المكانة المهنية للفرد، ومقاييس مختلفة للنجاح المهني كالتحصيل الدراسي المتخصص والخبرة الفنية ومستويات الكفاءة وغير ذلك.
2 – البيئة:
إن اختلاف نوعية العلاقات بين كل من المجتمع الريفي والحضري بالبيئة الطبيعية، يمثل وجهاً آخر من أوجه الاختلاف بين نموذج المجتمع: فالمجتمع الريفي بطبيعته نظراً لسيطرة العمل الزراعي مجتمع أكثر ما يكون ارتباطاً أو خضوعاً للبيئة الطبيعية، ومن ثم تبدو علاقته بها وثيقة ومباشرة، كما أن غلبة البيئة الطبيعية وسيطرتها على البيئة الاجتماعية والإنسانية هي أهم ما يميز نموذج المجتمع الريفي وعلى العكس من ذلك يعيش المجتمع الحضري حياته في عزلة نسبية عن البيئة الطبيعية الأمر الذي يجعل للبيئة الاجتماعية والبشرية غلبة وسيطرة واضحة.
ويضيف بيترمان إلى ذلك قوله أن هذا الاختلاف قد انعكس وبوضوح على نوعية المشكلات البيئوية لكل من المجتمع الريفي والمجتمع الحضري، وعلى التصورات المقترحة لمواجهتها.
3 – حجم المجتمع:
على الرغم مما يثيره استخدام متغير “الحجم” كمحك للتمييز بين المجتمع الريفي والحضري من صعوبات منهجية ترتبط بمجال تطبيق هذا المتغير (هل يطبق على مساحة الأرض التي يشغلها المجتمع؛ أم على جموع الأفراد التي يتركب منها) إلا أن الحجم أعتبر عند سوروكين وزيمرمان، وجهاً من وجوه الاختلاف والمقارنة بين نموذجي المجتمع، حيث إن المجتمع المحلي الريفي صغير بطبيعته وأن ثمة علاقة عكسية بين الريفية والعمل الزراعي وبين حجم المجتمع، وعلى الطرف المقابل يتميز النموذج الحضري من المجتمع بكبر حجمه النسبي عن النموذج الريفي وبالتالي فإن ثمة علاقة طردية بين الحضرية واتساع الحجم.
4 – كثافة السكان:
نموذج المجتمع المحلي الريفي يتميز بانخفاض الكثافة السكانية، لذلك ترتبط الريفية بوجه عام بعلاقة عكسية مع الكثافة، على العكس من نموذج المجتمع الحضري التي ترتفع فيه معدلات الكثافة السكانية كسمة مميزة، وترتبط فيه الخصائص الحضرية بعلاقة طردية مع ارتفاع هذا المعدل.
5 – التجانس والتغاير:
ترتبط متغيرات الحجم والكثافة ارتباطاً علياً بمتغيري التجانس والتغاير كوجه آخر من وجوه المقارنة بين المجتمع المحلي الريفي والحضري، وفيما يتعلق بالسمات النفسية والاجتماعية والعرقية يبدو سكان المجتمع الريفي أكثر تجانساً إذا قورنوا بسكان المجتمع الحضري، وأنه نتيجة لذلك يرتبط التجانس ارتباطاً طردياً بالريفية وعكسياً بالحضرية، كما يرتبط التغاير بطريقة عكسية بالأولى وطردية بالأخيرة.
6 – التمايز الاجتماعي والتدرج الطبقي:
تختلف انساق المكانة والتمايز والتدرج الطبقي اختلافاً بيناً في نموذجي المجتمع المحلي والريفي والحضري، سواء من حيث عوامل كسب المكانة الاجتماعية، أو أسس التمايز والتدرج الطبقي أو مظاهره، وتأتي هذه الفروق نتيجة لازمة لاختلاف مقومات التركيب المهني في كل نموذج، ففي المجتمع الحضري ترتكز أنساق التدرج الطبقي على العلاقات الاجتماعية الثانوية، كما لا تعمل بنفس الطريقة التي تقوم بها في المجتمع الريفي، فمن الملاحظ أن التمايز والتدرج الطبقي في مجتمع القرية مسائل شخصية بحتة، لأنه من السهل على الفرد في مثل هذا المجتمع أن يعرف وأن يمارس مهنة الآخرين، ومن ثم لا يكون الموقف بحاجة إلى تمايز بين الأفراد على أساس الطبقة، هذا على العكس من المجتمع الحضري، الذي تتدرج فيه المهن والأعمال تدرجاً هيراركياً، وحيث تؤسس المكانة الاجتماعية والطبقية للفرد وتصنف في حدود ما استطاع أن يحقق لنفسه من كسب مادي بعيداً عن انتمائه لجماعة قرابية معينة كعامل من عوامل كسب المكانة، بالإضافة إلى أنه مع زيادة تقسيم العمل وتخصصه تعقداً في المجتمع الحضري، تتضح وباستمرار أهمية الدور المهني للفرد كعامل من أهم عوامل كسب المكانة في المجتمع، كما أن في مجتمع مثل هذا بلغت فيه التناقضات ذروتها في مجال المهنة والدخل ومستويات المعيشة والتعليم..الخ، لا يتوقع أن تقوم التمايزات الطبقية على أساس من علاقات واحتكاكات أولية بين الأفراد، بل تصبح رموز مثل المستوى المهني ومستوى الدخل والتعليم والزي..الخ، مظاهر أساسية وهامة للتمايز الطبقي بين أفراد المجتمع.
7 – الحراك والتنقل:
إن الحراك بأشكاله المكانية والمهنية والاجتماعية أقل كثافة في المجتمع الريفي عنه في المجتمع الحضري وأن معدلاته ترتبط ارتباطاً طردياً مع زيادة الحضرية، يستثنى من ذلك فقط ما يتميز به المجتمع الريفي من ارتفاع في معدلات التنقل الفيزيقي –الهجرة- من جوانب الريف إلى المدينة وفيما عدا ذلك تبقى أشكال الحراك الأخرى –المهني والاجتماعي- في المجتمع الريفي أقل وضوحاً وكثافة إذا قورنت بمعدلاتها في المجتمع الحضري.
8 – أنساق التفاعل:
أهم ما يميز أنساق التفاعل في المجتمع الريفي أن “نطاق” التفاعل أو مجاله بالنسبة للفرد أو الجماعة يكون أكثر ضيقاً؛ وأن النتيجة التي تترتب على الحجم المحدود للمجتمع، وبالتالي لنطاق التفاعل بين أفراده وجماعاته، تتمثل في غلبة العلاقات الأولية على أنساق التفاعل، حيث تبرز العلاقات الشخصية والدائمة والشمولية بين الأفراد، بتفاعل سكان هذا المجتمع مع بضعهم البعض كأشخاص آدميون، على العكس من ذلك كان اتساع وكبر حجم المجتمع الحضري وارتفاع معدلات التغير بين سكانه سبباً مباشراً في اتساع نطاق التفاعل بالنسبة للفرد والجماعة وبالتالي تغلب العلاقات غير الشخصية والمؤقتة أو العرضية، كما تبدو هذه العلاقات بدورها ذات طابع سطحي رسمي انقسامي، وباختصار يتفاعل سكان هذا النموذج من المجتمع المحلي “كأرقام” أو “عناوين” وليسوا كأشخاص.
ج – ريدفيلد ومتصل الفولك – حضري:
يتفق تصور روبرت ردفيليد “لمتصل” الفولك حضري في إطاره التصوري العام مع تصور تونييز للنموذج المثالي للمجتمع، وتصور سوروكين وزيمرمان لثنائية الريفي-حضري، ومع ذلك فإن هناك بعض نقاط للاختلاف أهمها: أن ردفيليد لم يكن ليهتم بوضع نماذج مثالية متعارضة للمجتمع المحلي فحسب بل حاول أن يتفهم التغيرات التي قد تحدث عندما يتحول المجتمع من حالة “الفولك” إلى حالة “الحضري”.
ويتوصل ردفيليد إلى عشرة متغيرات أساسية يمكن من خلالها ترتيب المجتمعات كما لو كانت تمثل تزايداً أو نقصاناً تدريجياً ومتعاقباً في كل منها، لذلك فإن كل مجتمع من المجتمعات يكشف عن عدد من الخصائص المميزة بالمقارنة بغيره من المجتمعات الأخرى على النحو التالي:
1 – أنه أقل –أو أكثر- ارتباطاً بالعالم الخارجي.
2 – أنه أقل –أو أكثر- تغايراً.
3 – أنه أقل –أو أكثر- تقسيماً للعمل.
4 – أنه أقل –أو أكثر- تطويراً لاقتصاد السوق والمال.
5 – أنه أقل –أو أكثر- احتواءً على تخصصات مهنية أكثر علمانية.
6 – أنه أقل –أو أكثر- بعداً عن الاعتماد على الروابط والنظم القرابية.
7 – أنه أقل –أو أكثر- اعتماداً على مؤسسات ذات طابع غير شخصي للضبط.
8 – أنه أقل –أو أكثر- تمسكاً بالعقيدة أو بالأصل.
9 – أنه أقل –أو أكثر- بعداً عن التمسك بالعادات والأعراف التقليدية.
10 – أنه أقل –أو أكثر- تسامحاً وتأكيداً للحرية الفردية في الفعل أو الاختيار.
وهكذا تقيس هذه المتغيرات السابقة درجة تحضر مجتمع الفولك (حيث يشير تناقض درجة المتغير إلى القرب من النموذج الفولكي، وتشير زيادته إلى الاقتراب من النموذج الحضري) كما يتيح الاختلاف النسبي لمدى تمثل كل متغير في أي من المجتمعات إمكانية وضعه على إحدى نقاط المتصل الريفي الحضري.
وفي محاولته تحليل المتغيرات التي يمر بها المجتمع حال انتقاله من نموذج الفولك إلى النموذج الحضري، وحد ردفيليد هذه المتغيرات (أو الخصائص) العشرة في ثلاث مقومات أساسية للتغير أو التحول الحضري هي: زيادة التفكك الثقافي، تزايد العلمانية، زيادة انتشار الفردية، ولذلك كانت هذه الخصائص أهم ما يتسم به المجتمع الحضري في نظره، وجاء تبريره لذلك على النحو التالي:
أ – تزيد الحضرية من التفكك الثقافي للمجتمع، ويعني بذلك أن القواعد والمعايير التي كانت توجه السلوك والفعل الاجتماعي في مجتمع الفولك غدت أكثر تعقيداً وتعدداً في المجتمع الحضري، يتخذ التفكك الثقافي المصاحب للحضرية أربعة مظاهر أساسية هي: أولاً، أن تفقد الثقافة وحدتها التقليدية، ثانياً، اتساع نطاق البدائل الثقافية أمام الفرد مما يؤدي إلى تميع الأنماط السلوكية وصعوبة تحديدها، إن مجتمع المدينة يتيح فرصاً أرحب للاختيار، الأمر الذي يترتب عليه ظهور مشاكل اللا معيارية أو فقدان المعايير، ثالثاً، فقدان التكامل والارتباط المتبادل بين مقومات الثقافة ففي نموذج الفولك تتوحد كل عناصر الثقافة المحلية وتترابط فيما بينها، حتى يصعب على المرء فهم المعتقدات والقيم والطقوس المرتبطة بالمرض مثلاً دون استيعاب وفهم ما يرتبط بالعمل الزراعي والتفكير الغيبي من قيم ومعتقدات، رابعاً،الصراع الواضح أو عدم الاتساق بين المستويات الثقافية، ففي مجتمع الفولك تنسجم السمات والمركبات الثقافية مع بعضها البعض، على العكس من المجتمع الحضري الذي يواجه فيه الفرد توقعات سلوكية متعارضة وغير متسقة.
ب – تزيد الحضرية من اتجاه المجتمع نحو العلمانية والدنيوية، ففي مجتمع الفولك تجد أن كل الأنشطة التي يقوم بها الأفراد تصطبغ بالطابع الديني والعاطفي، بينما ترتبط النشاطات الحضرية وتوجه باعتبارات وأحكام عقلانية براجماتية، ويترتب على ذلك أنه مع زيادة الحضرية يتحرر الأفراد من الضوابط التقليدية وتتاح لهم فرصة صنع القرار في ضوء ضوابط علمانية رشيدة، دون ما ارتباط بإرادة المجتمع التي تجسدها المعتقدات الدينية المقدسة والتقليدية.
ج – تزيد الحضرية من انتشار الفردية وزيادة سيطرتها على موجهات السلوك الإنساني، ويعني ذلك أن الفرد وليس الجماعة هو المسئول عن عملية صنع القرار وعن نتائج ما يقوم به من أفعال، كما يعني أيضاً اختفاء الوظائف الجمعية وإحلالها بنشاطات فردية بحتة تهدف لتحقيق مصالح الفرد في المقام الأول، فإذا كان سكان مجتمع الفولك ينفقون المزيد من الوقت والجهد لأداء أعمال عامة جمعية دون مقابل نجد سكان المجتمع الحضري يعتبرون ذلك نوعاً من العبث والسلوك غير الرشيد، وقد تمثلت الفردية جوانب متعددة من حياة المجتمع الحضري، كان من أهمها إحلال الأسرة النواة محل العائلة الممتدة، وضعف سلطة الدين والمعتقدات وتحرر الأفراد من الروابط التقليدية بجماعات قرابية أو مكانية.
انتقادات أوسكار لأفكار ردفيليد:
أ – تتضمن فكرة المتصل نظرية للتغير مفادها أن الحضرية تطيح وبالضرورة بمجتمع الفولك، غير أنه من الخطأ أن نرجع كل التغيرات التي تطرأ على مجتمعات الفولك إلى عامل واحد بعينه هو التحضر.
ب – إن الثقافات دائماً في حالة من التغير المستمر، ومع ذلك ليس شرطاً أن تكون هذه التغيرات ذات طابع أو اتجاه ثوري للانتقال من مجتمع الفولك إلى مجتمع حضري.
ج – إن النموذج الذي حدده ردفيليد لم يبرز الاختلافات والتمايزات الواسعة المدى بين مجتمعات الفولك ذاتها، كذلك لقد ركز متصل ردفيليد على الجوانب الرسمية للمجتمع، وهذه لا تمثل أهمية كبيرة في التحليل الثقافي للمجتمع.
د – إن كثيراً من نتائج التحضر التي ساقها ردفيليد كالتفكك الثقافي والاتجاه نحو العلمانية والفردية تفتقر لشواهد امبريقية مؤكدة إذ لا يوجد أي دليل على حدوث تفكك ثقافي في مجتمع الفولك.
وهناك نقطة ضعف خطيرة في فكرة ريدفيليد وهي فشلها في تحديد العناصر الرئيسية للمجتمع الحضري في ذاته، إذ لا يكفي أبداً أن نقوم بتحليل هذا النموذج من المجتمع باعتباره “نموذجاً مناقضاً” لمجتمع الفولك، بعبارة أخرى لم يولي ريدفيليد اهتماماً خاصاً بتحديد خصائص الحضرية والمجتمع الحضري في ذاته.
2 – المجتمع المحلي الحضري في حدود تصور استنباطي:
سبب تسميتها بذلك أن أصحابها كانوا يبدؤون تصورهم للمجتمع الحضري والمدينة بصفة خاصة ببعض الافتراضات أو القضايا التي يعتبرونها مسلمات في غير حاجة إلى برهان ثم يشرعون بعد ذلك في استنباط قضايا أخرى غيرها، تمثل خصائص مميزة للحياة الحضرية.
أ – لويس ويرث والحضرية كطريقة للحياة:
قدم مقالة هامة يمكن تلخيصها في تعريف وسؤال وإجابات متتالية:
تعريف المدينة: “أنها موقع دائم يتميز بكبر الحجم وبكثافة عالية نسبياً، وبدرجة ملحوظة من اللاتجانس بين سكانها”
السؤال: يدور حول الصور والأشكال الجديدة للحياة الاجتماعية والتي قد تنجم عن الخصائص الأساسية المميزة للمجتمع الحضري (الحجم، والكثافة، واللاتجانس).
الإجابة: لخصت تصوره للمجتمع الحضري فكانت على النحو التالي:
افترض أن الحجم والكثافة والتغاير أو اللاتجانس، متغيرات أساسية أو مستقلة، أو خصائص مميزة للمجتمع الحضري، تسلم بدورها إلى عدد من القضايا أو الخصائص التي ترتبط بطبيعة الحياة الحضرية وشخصية ساكن الحضر.
وأنه كلما كبر حجم المجتمع الحضري (المدينة) اتسع نطاق “التنوع الفردي” وارتفع معدل التمايز الاجتماعي بين الأفراد الأمر الذي يؤدي إلى زيادة انتشار “العزل المكاني” للأفراد والجماعات على أساس السلالة أو المهنة أو المكانة، ويؤدي هذا العزل المكاني إلى إضعاف روابط الجيرة والعواطف التي تنشأ نتيجة المعيشة المشتركة ولأجيال متعاقبة تحت تقليد عام مشترك، كما أن ضعف هذه الروابط والعلاقات (الفولوكية) يفرض بدوره إحلال المنافسة وميكانيزمات الضبط الرسمي محل الروابط والعلاقات غير الرسمية في مجتمع الفولك.
ويستنبط ويرث مجموعة من القضايا استناداً على متغير “الحجم” مؤداها إن كبر الحجم وزيادة عدد السكان يحد من إمكانية أن يتعرف كل فرد على الآخرين معرفة شخصية وثيقة، ويترتب على ذلك انتشار علاقات اجتماعية ذات طابع انقسامي من خلالها يتعرف الحضري على عدد أقل من الأفراد وبدرجة أقل من المودة، إلى جانب سيطرة علاقات المنفعة، مما يؤدي بدوره إلى فقدان المعايير وافتقاد روح المشاركة والطواعية، وبطبيعة الحال يؤثر ذلك في النسق الاقتصادي والسياسي، حيث تؤدي انقسامية العلاقات الحضرية وتميزها بالطابع النفعي إلى التخصص الوظيفي للنشاط وتقسيم العمل واقتصاد السوق، كما تؤدي صعوبة الاتصال الشخصي والمباشر بين الإفراد إلى أن يوكل أمر الدفاع عن مصالح الأفراد إلى أجهزة متخصصة، ومن خلال عمليات الإنابة أو التفويض.
وبنفس الأسلوب عالج ويرث متغير “الكثافة” كخاصية أساسية ومميزة للمجتمع الحضري يترتب عليها خصائص أخرى، لقد تصور ويرث أن الكثافة تؤكد الآثار الاجتماعية والنفسية الناجمة عن الحجم، فهي تزيد من درجات التقارب الفيزيقي بين الأفراد في مقابل التباعد الاجتماعي، كما أنها تؤكد على الحاجة إلى التخصص والتمايز، وتكمن وراء كل حاجة إلى ضوابط رسمية لمواجهة كل احتمالات الفوضى والتفكك الناجمة عن زيادة أعداد السكان، ثم إنها “الكثافة” تزيد من العزل المكاني بمعنى انفصال الجماعات السكانية عن بعضها البعض في شكل مجاورات أو أحياء متجانسة نسبياً.
أما متغير “اللاتجانس” فقد كان في ذاته نتيجة ترتبت على متغيري “الحجم” و “الكثافة” فهو استجابة مباشرة لضرورة اقتصادية (تقسيم العمل) وأخرى اجتماعية تمثل الاختلافات والفروق المتوقع وجودها في جماعات كبيرة وكثيفة من السكان، ولكن اللاتجانس (التغاير) يؤدي بدوره إلى سلسلة من المصاحبات الاجتماعية أهمها تطوير نسق أكثر تعقيداً للتدرج الطبقي وزيادة معدلات الحراك بأشكاله الفيزيقية والاجتماعية، تطوير شخصية “علامية كوزموبوليتية” وفي الاتجاه المضاد، قد يؤدي التغاير إلى نوع من الجمود والتقنين اللذان يسيطران على حياة المدنية الأمر الذي يؤدي بدوره إلى نسق للتفاعل الاجتماعي يتميز بعلاقات غير شخصية وبأفكار وتصورات نمطية كما أن تنوع النشاطات والبيئات الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع الحضري من شأنه أن يؤدي إلى قدر لا يستهان به من تفكك الشخصية وزيا

319 مشاهدة