هدية حياة

هدية حياة

انتظرت “حياة” بلهفةٍ حُلُولَ فصل الرَّبيعِ الأجمل من بين فصولِ السّنة الأربعة؛ ففيه تتفتّحُ الأزهارُ -التي تعشقها “حياة”- بألوانها الجميلة، وتعبق برائحتِها النّديّة العَطِرة، وتُيْنِعُ الأشجارُ وترتدي الأرضُ ثوباً أخضرَ مزركشاً بالألوانِ الجذّابة.

في صباحِ أحدِ الأيّام، أيقظت “حياة” الطّيورُ التي بدأت تغرّدُ على نافذة غرفتها. تركت فِرَاشِها واتّجهت مسرعةً لتفتحَ النّافذة وتشمَّ رائحةَ الرّبيعِ المنعشة فاردةً ذراعيها للهواء.

أخذت “حياة” نفساً عميقاً وهي تتأمّلُ براعمَ الأشجار التي بدأت بالتّفتّحِ، وبساط العُشْبِ الأخضر الذي ضمّ أزهاراً بدت برؤوسها الصغيرة وقاماتها القصيرة كأنّها تبحثُ عن أشعّة الشَّمس لتساعدها على النّمو والازدهار، بينما تراقصت الفراشاتُ متنقّلة من زهرةٍ إلى زهرة.. عندها، حدّثت “حياة” نفسَها بفرح: “ما أروعَ هذا المنظر”، وهتفت بسعادة: “مرحى للرّبيع”.

هدية حياة 1

أغلقت “حياة” النّافذةَ، وقرَّرت الذَّهابَ في نزهةٍ قصيرةٍ تطوفُ خلالها في الحقولِ والبساتين الغنّاء التي لا تبعد عن منزلها كثيراً، ولم تنسَ أن تصطحبَ معها كاميرا التصوير الخاصّة بها لالتقاط صورٍ لمشاهدَ الطبيعةِ الرّائعة، كما أخذت معها سَلّة من القَشِّ كانت صنعتها والدتُها لها هدية في عيد ميلادها.

سارت “حياة” قاصدةً البساتين القريبة، وكلما صادفتها فراشةٌ في الطّريق كانت تركضُ خلفها وترقص معها على أنغامِ تغريدِ الطُّيور، وتلفّ بالهواءِ مادَّةً ذراعيها، فيما فستانها المزركش ينفردُ ليبدو كأنه زهرةٌ كبيرة تتحرّكُ داخل الحقل.

علت ضحكات “حياة” لتملأ المكانَ بالفرح، ثم قالت بسعادةٍ بالغة مُرَحِّبة بالطبيعة من حولها: “مرحباً أيّتها الأزهار والأشجار والعصافير”، ثم نظرت باتّجاه الأفقِ ورَدَّدَت بحماسة: “مرحباً أيّتها الشمس الحنونة”، لتبدأَ بعدها بالتقاط الصّور المتنوّعة لكلِّ ما حولها.

شعرت “حياة” أنّ الوقتَ مرّ سريعاً، فقررت أن تبدأَ بقطفِ الأزهار ووضعها داخل السلّة، وكانت تحدثُها قائلة: “سوف آخذكِ أيّتها الأزهار الجميلة إلى مكانٍ ستُحبينه بالتأكيد”.

أمسكت “حياة” بزهرة حمراء رائعة المنظر، ووشوشتها قبل أن تضعَهَا داخلَ السلّة: “سأقدّمكِ مع صديقاتكِ هديّة لأمّي وأبي، فهما يحبّان الأزهارَ كثيراً، ويستمتعان برائحتها الزَّكية”.

وبعد أن انتهت “حياة” من قطفِ الأزهار، حملت سلّتَها وهي تتأمّلُ المشاهدَ من حولها وتردّد: “ياه.. ما أحلى الرّبيع، كم أتمنى لو أننّي فراشة تحومُ طوال اليوم فوقَ الحقولِ وتتقافزُ بين الأزهارِ ولا تفارق الرّبيع أبداً”.

هدية حياة 2

وقبل أن تتركَ المكان نظرت إلى الطبيعةِ من حولها وقالت بامتنان: “شكراً أيّتها الفراشات الرقيقة، وأيّتها العصافير الجميلة لما منحته لي من سعادة.. وإلى اللقاء قريباً”.

عندما وصلت “حياة” منزلَها دخلت وهي تحمل سلّتها بسرور.. قبّلت والدَيْها بمحبّةٍ وقدّمت لهما سلّة الأزهارِ وهي تردّدُ بفرح: “لقد قطفتُها من أجلكما، فأنا أعلم كم تحبّان الأزهار”.

لم يُبْدِ الوالدان سعادةً بأزهار “حياة” التي صمتت مستغربةً ردّة فعلهما، ثم سألت بحيرة: “ألم تعجبكما الهديّة”.

أمسكَ والدُها بيدها وقرّبها منه بلطفٍ وهو يقول: “لقد أعجبتنا الأزهار يا صغيرتي، لكن كانت ستعجبنا أكثر لو لم تقطفيها واكتفيت بتصويرها”.

وأضافت أمّها وهي تربتُ على كتفها: “من الأنانيّةِ أن نقطفَ الأزهارَ لتكون ملكاً لنا لبضعة أيّام، ولا أحد يراها غيرنا، فيما كان من الممكن أن تعيش لمدة أطول لو تركناها في الأرض، ويستمتع الجميع بمنظرها الجميل ورائحتها المدهشة”.

نكست “حياة” رأسَهَا بأسفٍ وقد أدركت حجمَ الخطأ الذي ارتكبته، ثم تساءلت بيأس: “والآن ما العمل؟!”.

قالت والدتُها مخفّفة من شعورها بالذّنب: “سنضعها في مزهرية ونملأها بالماء، ثم نضعها في مكان مشمس حتى تعيش لفترة أطول”..

حملت “حياة” المزهرية المليئة بالأزهار ووضعتها على حافّة النافذة مقابلَ أشعة الشَّمس..

وغَفَت في تلك الليلة وهي تفكّر بالأزهار مصيرها.

وفي الصباح كان أول ما فعلته “حياة” هو إلقاءُ نظرةٍ على أزهارها الموضوعة على النّافذة، وقد تملّكها الحزن عندما رأتها شاحبة وألوانها تميل إلى الاصفرار.

اقتربت “حياة” من الأزهار، ولمست أوراقها بيدها، ثم قالت معتذرةً وهي تبكي بحرقة على ما حلّ بالأزهار بسبب تصرفها الأناني: “سامحيني أيّتها الأزهار الجميلة.. فأنا لم أقصد إيذاءك لأنني أحبّك كثيراً، ومنذ الآن لن أقطفك أبداً أبداً.. كما سأحاولُ منع أي أحد من قطفك”.

مسحت “حياة” دموعها، ثم سارعت بإخراج أوراق وألوان ومقص من خزانتها، وصنعت لافتات كتبت عليها: (يُمنع قَطفَ الأزهار نهائياً)، وحالما انتهت من صُنْعِ اللافتات، خرجت مسرعةً لتثبتها في كلِّ مكانٍ فيه أزهار تنتظر الربيع بشوق لتتفتح.

298 مشاهدة