ذكريات من قصبة هدراش

ذكريات من قصبة هدراش

سلسلة تعرف على مدينتك، الموضوع الخامس “قصبة هدراش”

تقديم

“مكناس” الإمبراطويرية العتيقة، مزيرج من التاريخ والعراقة مازالت متشيثة بارضها الطيبة تحتضن معالم وآثار ينبعث أريجها على بعد أميال وترفع صوامعها لتتراءى للناظرين بعز وشموخ فتؤنس أهلها وتزيد نفوسهم طمأنينية وثقة، وتبعث الفضول في نفوس المارين فتغريهم بالدخول لتفتح أمامهم صفحات خالدة عن حضارات القدامى وبطولات العظماء الذين عمروا المكان وأبوا إلا أن يتركوا بصمات تشهد على زمن العطاء والرقي.

وبين الأسوار والأزقة القديمة تحيا “قصبة هدراش”بجوانبها المعمارية والفنية التي تحتفظ بأجمل الذكريات وتبوح بأغرب الأسرار.

قصبة هدراش

“قصبة هدراش” ثكنة عسكرية خصصها السلطان مولاي اسماعيل(1645 – 1727م) لجيش عبيد البخاري، فبعد وفاته عمت الفوضى والخراب البلاد، وتم تدمير العديد من المعالم بهذه القصبة التاريخية، هنا اكتشفت تقاليد وعادات وعلاقات اجتماعية قل نظيرها في العالم

سميت “قصبة هدراش ” نسبة للقائد هدراش اليد اليمنى للقرصان ابن عائشة والذي بعد افتدائهما السلطان المولى اسماعيل من قبضة الإنجليز عين ابن عائشة سفيرا له لدى الملك لويس الرابع عشر وعين القائد قرصان البحر قائدا على رحى الاودايا بالقصبة التي حملت اسمه، ويعود نسبة القصبة الى الأودايا الى كون السلطان المولى اسماعيل اسكن بها ” رحى الاودايا ” وهن قسم من جيش الأودايا الذي كان يتكون من ثلاثة أقسام : رحى أهل سوس ،ورحى المغافرة أصهار السلطان، ورحى الاودايا وكانوا اي رحى الودايا قد قدموا على السلطان اثناء دخوله لمدينة مراكش للمرة الثانية سنة (1088/1677) فأثبتهم في ديوان الجندية واسكنهم -أولا – بقصبة هدراش ثم كبارهم واعيانهم بمدينة الرياض العنبري فيما بعد، وقد كانت أرض القصبة أرضا خلاء قبل ان يعمرها السلطان المولى اسماعيل ويزودها بالماء والبناءات الضرورية منها ” جامع قصبة هدراش ” الذي يعرف الآن بجامع للا خضرا ء ،وقد اعتبر الزياني بخطه في كتابه ” البستان الظريف ” هذا الجامع من انشاءات السلطان سيدي محمد بن عبدالله (1790-1771) والواقع ان هذا السلطان اعاد تجديده فقط لما أصابه وأصاب القصبة من خراب بعد وفاة مؤسسها ،والدليل أن ذكره ورد في الحوالات الحبسية الاسماعيلية عند الحديث عن تحبيسات المولى اسماعيل على هذا الجامع “.

ذكريات من “قصبة هدارش”

كل درب من دروبها يشكل أسرة واحدة متآزرة في السراء والضراء، الكثير من أبناء الحي إخوة من الرضاع، النساء يستيقظن باكرا لإنهاء أشغال البيت، وعلى الساعة الحادية عشرة قبل الظهر يكون الغداء جاهزا، يجلسن القرفصاء لاحتساء الشاي في انتظار قدوم الأزواج والأبناء من المدرسة.

على الساعة الثانية عشر تنتشر رائحة الخبز المطهو في الأفران التقليدية ممزوجة أحيانا بروائح أخرى زكية منها نوع آخر من المعجنات يطلق عليه اسم (الملوي بالشحمة) وهو عبارة عن عجين يحضر يديويا ثم يضاف إليه حشو من البصل والفلفل الأحمر والتوابل ليخبز بعناية، فأغلب الأسر وقتئذ لم تكن تستعمل الموقد الذي يعتمد على الغاز كمصدر للطاقة بل تفضل المجمر (النافخ) وعاء من فخار يُشعل فيه الفحم حتى يصير جمرا، وكانت جدتي -رحمة الله عليها- تستغرق وقتا طويلا لطهي الطعام اللذيذ وهي تدندن، الذي لم أذق مثله حتى في أرقى المطاعم وأفخمها.

لليالي رمضان هنا نكهة خاصة بالإضافة إلى العبادة والترفيه والسهر، أتذكر أخوان كانا يوقظان سكان الحي للسحور ،واحد يعزف على الغيطة والثاني يضرب على الطبل، وقد كانا متخاصمين في أحد شهور الغفران؛ لكن طبيعة العمل تحتم عليهما الاشتغال جنبا إلى جنب مع بعضهما، صاحب الغيطة يبدأ العزف بالقرب من بيت أخيه ليوقظه، بعد لحظات يخرج هذا الأخير ليتم المعزوفة نفسها على الطبل بالإيقاع ذاته، صم يجوبان كافة الدروب ويعودان دون أن ينطقا ببنت شفة.

كنت أنا وصديقي الراحل أبحيبح سعيد نحس بالاعتزاز والافتخار عندما تلقى أعمالنا الفنية التشجيع والتصفيق من جمهور دار الشباب، نسهر الليالي على وقع خرير مياه سقاية درب بوجمعة، نستمع إلى أغاني ناس الغيوان، مارسيل خليفة، جاك بريل، نكتب السكيتشات والمسرحيات و نحلم بغد فني مشرق.

غير بعيد عنا يوجد صالون للحلاقة لبا بنعيسى -يرحمه الله- فنان بمعنى الكلمة، كان يستهويني عزفه الحزين على آلة الكمان والعود، سي علي الفقيه رحمة الله عليه- وهوسه بسباقات الخيل، عمي لحسن الخضار وهو يستعين بحبل مدلى للدخول والخروج من دكانه، يذكرنا بمغامرات طارزان، با ناصر البقال مواعيد فتح وإغلاق بقالته جد مضبوطة، با مغربي العجلاتي وقفشاته، علمنا ركوب الدراجات الهوائية، يعد القهوة و يعشق شربها بدون سكر، إذا تضايق أحد أصدقائه، يمسك الفنجان من يده ويقول له (بغيتي قاقا سير عند باك ناصر) .


لعبنا كرة القدم بساحة لمنيجيرة، شاركنا في بطولة الأحياء بملعب المولى اسماعيل قرب القصر الملكي (مكان المعرض الفلاحي الدولي حاليا) نستحم بصهريج السواني بعد نهاية المباريات، ونصطاد السمك على ضفافه، كنا نتفاجأ ونحن صغار بنساء كثر على اختلاف مستواهن الاجتماعي والثقافي يأتين بالشموع والمأكولات للتبرك بمكان يدعى (غار للاعيشة).

وللمولد مظهر آخر

الاحتفالات بعيد المولد النبوي لها طقوس خاصة، فرق عيساوية كثيرة تنطلق بالقرب من ضريح للا خضرة على شكل صفوف متراصة مرورا بباب الناعورة، على طول الطريق كنا نستمتع بهذا التراث الأصيل من الفنون الشعبية، الموسيقى الصوفية والجدبة، اختفت العديد من هذه الفرق منها فرقة الدياب أصحاب المرايا، نخاف أن نلبس الثوب الأسود حتى لا نتعرض لهجوم أحد الطوائف العيساوية، كان أحد الجيران يستفزهم عندما يلف قطعة من القماش الأسود حول قصبة ويصعد إلى سطح المنزل ملوحا بها، يجعلهم في هيجان هيستيري كأنهم مجموعة من آكلي لحوم البشر، وبين الفكاهة والجد تمضي الأيام.

أيام المدرسة الابتدائية


درست بمدرسة أبي القاسم الشابي، حصة الصباح تمر كالجحيم عند معلم يسمى لهايشار يتعامل مع التلاميذ بنظام بوليسي أحيانا يحول القسم كقاعة للإستنطاق، المدير يعاقب المشاغبين بالصعق الكهربائي، نحس بالأمان فقط في الفترة المسائية عند المعلم الدحمي -طيب الله ثراه- بفضل طريقته للشرح الأكثر من رائعة وتعامله الإنساني عشقت اللغة العربية و مادة التاريخ، لم يكن هناك قسم سادس، الشهادة الابتدائية تمنح عند اجتيازامتحان موحد بالسنة الخامسة، نتائجه تدون بالطباشير على شكل أرقام خاصة بكل تلميذ ناجح على سبورة بالساحة، بينما نحن ننتظر ظهور أرقامنا، هناك صف آخر من التلاميذ خلفنا على علو تقريبا خمس أمتار على طول السور الإسماعيلي تصل أعمار بعضهم 18 سنة، بمجرد تجاوز أرقامهم تنهال الحجارة فوق رؤوس الجميع.
إنها ذكريات لا تنسى في حي لازال ماضيه عالقا في وجداني، أذكره دوما ولا أشك في أن أسواره يوما ستنساني.



من صفحة رشيدي أناس بتصرف.

491 مشاهدة