“زمان الوصل بالأندلس” لسان الدين بن الخطيب

“زمان الوصل بالأندلس” لسان الدين بن الخطيب

تقديم

لسان الدين بن الخطيب علامة جليل اشتهر بـ”ذي العمرين” عمر بالنهار لاشتغاله بأمور الدولة والسياسة، وعمر بالليل خصه للتأليف والتصنيف،  ولقب بـ”ذي الوزارتين” لجمعه بين منبري السيف والقلم، وحتى بعد مقتله سمي   “ذو الميتتين” و “ذو القبرين”، ردل غدرا تاركا خلفه تاريخين أولهما تاريخ حياته الحافل بالإنجازات وثانيهما تاريخ الدول الإسلامية والخلفاء الأوائل وبني العباس، وبني أمية بالأندلس وملوك الطوائف والمرابطين والموحدين وبني مرين موثقا.

لسان الدين بن الخطيب

أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد بن علي أحمد السلماني اللوشي، المشهور بلسان الدين بن الخطيب يعود نسبه إلى قبيلة سلمان أحد القبائل القحطانية باليمن المهاجرة إلى الأندلس تحديدا إلى قرطبة، ولقب أسلافه ببني الوزير وانضموا إلى الحزب المعارض لحكم بن هشام الأموي،الذي تزعمه الفقهاء، وعدد من الجاليات المشرقية بقرطبة، وعرفت ثورتهم باسم ثورة الربض، نسبة الى المعركة التي وقعت في موقع قرب قرطبة يدعى الربض، وعلى إثر انهزام المعارضة هاجر بنو الوزير الى طليطلة عام 202هجرية الموافق لسنة 817 ميلادية، حيث استقروا بها قرابة قرن ونصف.

لقد كان ابن الخطيب ذو نشأة مترفة وسط الجهاز الاداري النصري آخر صرح للحضارة الاسلامية في الأندلس، ارتبط لسان الدين بن الخطيب بشيخه بن الجياب، رئيس ديوان الإنشاء النصري، وعند وفاته بوباء الطاعون، تولى لسان الدين رئاسة الديوان إذ اكتسب ثقة السلطان ابي الحجاج يوسف فأصبح كاتبه الخاص.

فضلا عن جعله دبلوماسيا خارجيا حيث بعث سنة 749 هجرية – 1443 ميلادية سفيرا إلى أبي الحسن المريني وبعد مقتل أبي الحجاج يوسف في سنة 755 هجرية – 19 أكتوبر 1354 ميلادية، وتولى ابنه محمد الخامس الغني بالله، واستمر ابن الخطيب في خدمته، محتفظا بمناصبه ككاتب وسفير حيث أرسل الى السلطان المريني عام 755 هجرية – 1354 ميلادية طالبا النصرة ضد التحالف المسيحي الذي يهدد مملكة غرناطة، وقد حقق ابن الخطيب مهمته في البلاط المريني بمساعدة شيخه وصديقه أبي عبد الله محمد بن مرزوق.

صار لابن الخطيب مكانة عالية وزاد نفوذه السياسي حتى أصبح أحد الوجوه البارزة في السلطة الغرناطية إلا أن هذا النفوذ لن يستمر طويلا بعد الأحداث والاضطرابات الداخلية، إذ أنه في سنة 760 هجرية – 1359 ميلادية استولى اسماعيل بن أبي الحجاج على السلطة، وبدأ في اعتقال الشخصيات السياسية كمحاولة لتغيير الجهاز الاداري السابق، وكان في مقدمة المعتقلين الوزير ابن الخطيب.

التجأ السلطان الغرناطي الى المغرب بناء على علاقة وثيقة ربطته بالسلطان أبي سالم المريني في مرحلة منفاه بالأندلس من قبل أخيه أبي عنان، وتحت تأثير ابن مرزوق بعث أبو سالم سفارة بقيادة أبي القاسم التلمساني للإفراج عن ابن الخطيب، جاعلا مستقبل العلاقات المرينية الغرناطية معلقة على تلبية هذا الطلب، وبعد نجاح مهمة الوساطة، انطلق ابن الخطيب الى مدينة فاس فوصلها في سنة 761 هجرية، ليجد حفاوة وتكريما من السلطان أبي سالم.

واستفاد ابن الخطيب في مرحلة وجوده في المغرب اقتصاديا اذ امتلك ثروة طائلة من ضياع وممتلكات، فضلا عن عطايا السلطان فبنى الدور بمدينة سلا للابتعاد عن سلطانه الغني بالله والتفرغ للعلم، كما ساعده عمال مختلف الاقاليم المغربية التي زارها بناء على مرسوم أصدره السلطان المريني في هذا الشأن.

بعد استيلاء الغني بالله على غرناطة بمساعدة المرينيين، التحق به ابن الخطيب سنة 763 هجرية، فاستعاد أملاكه المصادرة سابقا، بل أصبح المسير الرئيسي لأمور المملكة الغرناطية، بعد أن أبعد عثمان بن يحيى بن عمر شيخ الغزاة المرنيين، الذي كان  يشكل أكبر منافس له في البلاط الغرناطي، كما لم يحتمل بقاء ابن خلدون في غرناطة خوفا من أن يستميل السلطان الغني بالله، ويصف لنا ابن خلدون مكانة صديقه بقوله :”وخلا لابن الخطيب الجو، وغلب على هوى السلطان، ودفع اليه تدبير الدولة،…. وانفرد ابن الخطيب بالحل والعقد، وانصرفت اليه الوجوه…” ان استبداد ابن الخطيب وانفراده بتسيير الدولة الغرناطية أثار حوله مجموعة من المنافسين والخصوم، وارتبطوا به أشد الارتباط وخدموا الدولة الغرناطية الى جانبه، وفي مقدمتهم تلميذه ومساعده في الوزارة الكاتب أبو عبد الله محمد بن يوسف المعروف بابن زمرك، وقاضي القضاة أبي الحسن علي بن عبد الله النباهي، وبعد أن تمكن خصومه من تأليب السلطان عليه، فر ابن الخطيب الى المغرب في جمادى سنة 772 هجرية ليستقر في بلاط المرينيين متمتعا بالاقطاعات، وبعد وفاة السلطان عبد العزيز بن أبي الحسن سنة 774 هجرية، رحل ابن الخطيب من مدينة تلمسان بالجزائر إلى فاس العاصمة محتفظا بمكانته السياسية وأملاكه، بل أنه استكثر من شراء الضيعات وبناء المساكن كما ذكر ابن خلدون، إلا أن تحركات ابن الخطيب السياسية ضد المملكة الغرناطية، دفعت السلطان الغني بالله الى المطالبة بتسليمه مرات عديدة، فدخل الغرناطيون في صراعات المطالبين بالعرش المريني جاعلة مساعدتها مقابل تسليم ابن الخطيب أو على الاقل محاكمته بالمغرب، وعندما تغلب أبو العباس على خصومه سنة 776 هجرية، تحرك الغني بالله لتنفيذ شرط المساعدة، حيث التقى ذلك مع تحريض سليمان بن داود للسلطان المريني، اذ كان ابن الخطيب قد رفض توليته منصب شيخ الغزاة المرينيين بغرناطة سابقا، تحت حجة أن المنصب للمنتمين الى القبائل المرينية دون سواها.

موت ابن الخطيب

وما ذكره ابن خلدون عن صديقه السابق لا يمكن الجزم به فقد كان الحسد معروف بين العلماء والغيرة العلمية قد تغير القناعات.

اعتقل ابن الخطيب وأصدر فيه حكم بالقتل سنة 776 هجرية – 1374 ميلادية، تحت تأثير خصومه الغرناطيين، وفتاوي بعض فقهاء فاس بتهمة الالحاد والزندقة، التي لا تعني إلا القضاء على تحرك ابن الخطيب السياسي، فالتهمة الموجهة اليه لا تحمل أية خروق لابن الخطيب للمسائل الدينية، بل أن الامر كان يتعلق بمحاكمته على سياسته الأندلسية.

وزعموا أن من كتاباته ما يتضمن طعنا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، والأخذ بمذهب الفلاسفة الملحدين معتمدين في ذلك على ما كتبه ابن الخطيب في كتابه “روضة التعريف بالحب الشريف” وهو كتاب في التصوف ألّفه للسلطان محمد الغني بالله، على نمط ما كان يكتبه المشارقة في مصر والشام.

ورغم ذلك نجح سعي أعداء ابن الخطيب، واستغلوا وفاة السلطان عبد العزيز وارتقاء غيره الذي سمع للخصوم، وصدر القرار بسجن ابن الخطيب وهو في الثالثة والستين من عُمره ثم قتل خنقا ثم دفنوه ثم أخرجوه وأحرقوه وأعادوا دفنه في مقبرته التي لا تزال في فاس بالمغرب.

من مكتبة لسان الدين الخطيب

إن قتل العلامة لسان الدين الخطيب خسارة كبيرة فالرجل كان موسوعة ذكيا ونبيها وعالما جليلا لكن قد ترك طيب ذكر ومؤلفات تاريخية أندلسية عظيمة، فضلا عن أنها أثرت الأدب العربي وتركت له بصمة محفوظة.

ومن هذه المجموعة الأدبية كتاب “بستان الدول” وهو مؤلف في شؤون الدولة مثل السياسة والقضاء والحرب، وكذا أهل المِهن والحِرَف، وطوائف الشعب،إذ يخصص لكلٍّ منها جزءا.

وكذلك “روضة التعريف بالحبّ الشريف” وهو مؤلف هام بلغة راقية وأسلوب فريد حيث عرض موضوع الحب الإلهي والوصال المقدس، موضحا ضّرورة تطهير النفس من أصناف الشكّ والارتياب وملئها بحب الخالق.

أما عن التاريخ فكتاب “الإحاطة في أخبار غرناطة” مصنف تاريخي هام يجمع أخبار الأندلس وكذا كتاب ” الأعمال الأعلام فيمن بُويِع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام وما يتعلق بذلك من شجون الكلام”.

إلى جانب مصنفات عديدة منها:

  • الكتيبة الكامنة في من لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة .
  • جيش التوشيح .
  • خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف .
  • ديوان لسان الدين الخطيب.
  • ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب .
  • معيار الاختيار فى ذكر المعاهد والديار.
  • إفاضة الجراب في علالة الاغتراب .

رائعة زمان الوصل بالأندلسي

من أروع ما حبر قلم بن الخطيب -رحمة الله عليه- قصيدته الشهيرة بأسلوبها الراقي وكلماتها الموحية :

جادَكَ الغيْثُ إذا الغيْثُ هَمى

يا زَمانَ الوصْلِ بالأندَلُسِ

لمْ يكُنْ وصْلُكَ إلاّ حُلُما

في الكَرَى أو خِلسَةَ المُخْتَلِسِ

إذْ يقودُ الدّهْرُ أشْتاتَ المُنَى

تنْقُلُ الخَطْوَ علَى ما يُرْسَمُ

زُفَراً بيْنَ فُرادَى وثُنَى

مثْلَما يدْعو الوفودَ الموْسِمُ

والحَيا قدْ جلّلَ الرّوضَ سَنا

فثُغورُ الزّهْرِ فيهِ تبْسِمُ

ورَوَى النّعْمانُ عنْ ماءِ السّما

كيْفَ يرْوي مالِكٌ عنْ أنسِ

فكَساهُ الحُسْنُ ثوْباً مُعْلَما

يزْدَهي منْهُ بأبْهَى ملْبَسِ

في لَيالٍ كتَمَتْ سرَّ الهَوى

بالدُّجَى لوْلا شُموسُ الغُرَرِ

مالَ نجْمُ الكأسِ فيها وهَوى

مُسْتَقيمَ السّيْرِ سعْدَ الأثَرِ

وطَرٌ ما فيهِ منْ عيْبٍ سَوَى

أنّهُ مرّ كلَمْحِ البصَرِ

حينَ لذّ الأنْسُ مَع حُلْوِ اللّمَى

هجَمَ الصُّبْحُ هُجومَ الحرَسِ

غارَتِ الشُّهْبُ بِنا أو ربّما

أثّرَتْ فيها عُيونُ النّرْجِسِ

أيُّ شيءٍ لامرِئٍ قدْ خلَصا

فيكونُ الرّوضُ قد مُكِّنَ فيهْ

تنْهَبُ الأزْهارُ فيهِ الفُرَصا

أمِنَتْ منْ مَكْرِهِ ما تتّقيهْ

فإذا الماءُ تَناجَى والحَصَى

وخَلا كُلُّ خَليلٍ بأخيهْ

تبْصِرُ الورْدَ غَيوراً برِما

يكْتَسي منْ غيْظِهِ ما يكْتَسي

وتَرى الآسَ لَبيباً فهِما

يسْرِقُ السّمْعَ بأذْنَيْ فرَسِ

يا أُهَيْلَ الحيّ منْ وادِي الغضا

وبقلْبي مسْكَنٌ أنْتُمْ بهِ

ضاقَ عْنْ وجْدي بكُمْ رحْبُ الفَضا

لا أبالِي شرْقُهُ منْ غَرْبِهِ

فأعِيدوا عهْدَ أنْسٍ قدْ مضَى

تُعْتِقوا عانِيكُمُ منْ كرْبِهِ

واتّقوا اللهَ وأحْيُوا مُغْرَما

يتَلاشَى نفَساً في نفَسِ

حُبِسَ القلْبُ عليْكُمْ كرَما

أفَتَرْضَوْنَ عَفاءَ الحُبُسِ

وبقَلْبي منْكُمُ مقْتَرِبٌ

بأحاديثِ المُنَى وهوَ بَعيدْ

قمَرٌ أطلَعَ منْهُ المَغْرِبُ

بشِقوةِ المُغْرَى بهِ وهْوَ سَعيدْ

قد تساوَى مُحسِنٌ أو مُذْنِبُ

في هَواهُ منْ وعْدٍ ووَعيدْ

ساحِرُ المُقْلَةِ معْسولُ اللّمى

جالَ في النّفسِ مَجالَ النّفَسِ

سدَّدَ السّهْمَ وسمّى ورَمى

ففؤادي نُهْبَةُ المُفْتَرِسِ

إنْ يكُنْ جارَ وخابَ الأمَلُ

وفؤادُ الصّبِّ بالشّوْقِ يَذوبْ

فهْوَ للنّفْسِ حَبيبٌ أوّلُ

ليْسَ في الحُبِّ لمَحْبوبٍ ذُنوبْ

أمْرُهُ معْتَمَدٌ ممْتَثِلُ

في ضُلوعٍ قدْ بَراها وقُلوبْ

حكَمَ اللّحْظُ بِها فاحْتَكَما

لمْ يُراقِبْ في ضِعافِ الأنْفُسِ

مُنْصِفُ المظْلومِ ممّنْ ظَلَما

ومُجازي البَريءِ منْها والمُسي

ما لقَلْبي كلّما هبّتْ صَبا

عادَهُ عيدٌ منَ الشّوْقِ جَديدْ

كانَ في اللّوْحِ لهُ مكْتَتَبا

قوْلُهُ إنّ عَذابي لَشديدْ

جلَبَ الهمَّ لهُ والوَصَبا

فهْوَ للأشْجانِ في جُهْدٍ جَهيدْ

لاعِجٌ في أضْلُعي قدْ أُضْرِما

فهْيَ نارٌ في هَشيمِ اليَبَسِ

لمْ يدَعْ في مُهْجَتي إلا ذَما

كبَقاءِ الصُّبْحِ بعْدَ الغلَسِ

سلِّمي يا نفْسُ في حُكْمِ القَضا

واعْمُري الوقْتَ برُجْعَى ومَتابْ

دعْكَ منْ ذِكْرى زَمانٍ قد مضى

بيْنَ عُتْبَى قدْ تقضّتْ وعِتابْ

واصْرِفِ القوْلَ الى المَوْلَى الرِّضى

فلَهُم التّوفيقُ في أمِّ الكِتابْ

الكَريمُ المُنْتَهَى والمُنْتَمَى

أسَدُ السّرْحِ وبدْرُ المجْلِسِ

ينْزِلُ النّصْرُ عليْهِ مثْلَما

ينْزِلُ الوحْيُ بروحِ القُدُسِ

مُصْطَفَى اللهِ سَميُّ المُصْطَفَى

الغَنيُّ باللّهِ عنْ كُلِّ أحَدِ

مَنْ إذا ما عقَدَ العهْد وَفَى

وإذا ما فتَحَ الخطْبَ عقَدْ

مِنْ بَني قيْسِ بْنِ سعْدٍ وكَفى

حيْثُ بيْتُ النّصْرِ مرْفوعُ العَمَدْ

حيث بيْتُ النّصْرِ محْميُّ الحِمَى

وجَنى الفَضْلَ زكيُّ المَغْرِسِ

والهَوى ظِلٌّ ظَليلٌ خيَّما

والنّدَى هبّ الى المُغْتَرَسِ

هاكَها يا سِبْطَ أنْصارِ العُلَى

والذي إنْ عثَرَ النّصْرُ أقالْ

عادَةٌ ألْبَسَها الحُسْنُ مُلا

تُبْهِرُ العيْنَ جَلاءً وصِقالْ

عارَضَتْ لفْظاً ومعْنىً وحُلا

قوْلَ مَنْ أنطَقَهُ الحُبُّ فَقالْ

هلْ دَرَى ظبْيُ الحِمَى أنْ قد حَمَى

قلْبَ صبٍّ حلّهُ عنْ مَكْنِسِ

فهْوَ في خَفْقِ وحَرٍّ مثلَما

ريحُ الصَّبا بالقَبَسِ.

430 مشاهدة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *