ما تعلمنا الحرب الكبرى عن الجائحة

ما تعلمنا الحرب الكبرى عن الجائحة

ليس الصراع ضد فيروس كورونا “حربا”، لكن مقارنته مع الحرب العالمية الأولى لا تخلو من فائدة، فمثلا ما حصل في 1914،  حيث انقلبت حياة جميع المواطنين فجأة رأسا على عقب أمام خطر الهزيمة و الموت، و كذا إنتاج و اقتصاد البلدان المشاركة في النزاع، خاصة و الحالة هذه اليوم، لم يكن المسؤولون السياسيون لفرنسا مستعدين حين مباغتة المحنة، لقد فكروا في حرب قصيرة الأمد؛ فمنذ شتنبر 1914، و رغم انتفاضة المارن، كانت فرنسا على شفا حفرة، حيث أكد الجينرال جوفغ Joffre رئيس أركان الحرب، على نفاذ الذخيرة في غضون خمسة أسابيع، و من بوردو حيث كان انسحاب الحكومة، أطلق أليكساندر ميلاران Alexendre Millerand تعاونا مع قطاع الصناعة الخاص قصد مضاعفة إنتاج   قذائف المدفع 75 بعشر مرات، و قد حولت رونو و سيتروين إنتاجهما، أما ألبيرت توماس Albert Tomas المكلف بتنظيم إنتاج الأسلحة فقد كان يجوب فرنسا بحثا عن مشاريع محلية، و تمت تعبئة الأوراش و المصانع و العمال في البلد بأكمله من أجل تصنيع القذائف أو المنتجات اللازمة للحرب، لكن سرعان ما احتلت القوات الألمانية عشر ولايات في الشمال، مما حرم فرنسا من جزء كبير من موادها الأولية ( الحديد، الفولاذ و الفحم) ونفاذ القمح كمادة لتغذية الساكنة.

كان لقاء حاسما في بوردو بين جون موني Jaune Monnet، مستأجر بحري ذي 26 سنة، و ريني فيفياني  René Viviani رئيس المجلس، و قد استغرب موني  كون فرنسا و بريطانيا تخوضان الحرب معا و تشتريان أو بالأحرى تتنافسان في شراء السلع الضرورية للجيش و للمدنيين، ثم أقنع فيفاني و غادر إلى لندن للتفاوض مع إحدى الشركات الخاصة – Hudson Bay Company  – والتعاقد  من أجل تزويد فرنسا بالقمح و المعادن و الأسلاك الحديدية الشائكة و القوارب،     و منذ 1915 عُيّن مبعوث إيتيين كليمونتيل Etienne Clémentel -وزير التجارة- بلندن، حيث سيكلف في نهاية الحرب بتزويد البلد بجميع الإمدادات، ليتقوى هذا التعاون الفرنسي البريطاني إلى حدود سنة 1917   و تشترك جميع سفن الحليفين و نفس الشيء بالنسبة لشراء المواد الأساسية من القمح إلى الفولاذ،  و عندما التحقت أمريكا بالحرب في سنة 1917 تم الإفراج عن  السفن كي تتمكن من ترحيل الجنود -التي ستساهم في النصر- إلى فرنسا.

       إلهام التخطيط

لقد تفاجأت ألمانيا في البداية بفشل هجمتها الخاطفة، خاصة مع دخول الانجليز الحرب إلى جانب الفرنسيين و الروس، و استوعب والتر راتنو Walter Rathenaux – مدير مقاولة الالكترونك  AEG- المآلات بسرعة: في أي لحظة سيقيم الانجليز حاجزا بحريا و بالتالي ستنفذ المواد الأولية بألمانيا، ليضع مخططا لدى وزير الحرب يهدف إلى تعويض المواد الأولية المستوردة و حفظ المخزون المتوفر، هذا المخطط الذي سهر راتينو بنفسه على تنفيذه، حيث أطلقت حملات استبدال المنتجات المستوردة للعموم، و بعد مغادرته للوزارة في مارس 1915 عرض في أحد المؤتمرات التعاون غير المسبوق بين المقاولات و الحكومة   في هذا النظام اللامركزي لشركات الحرب التي أُنشأت في جميع قطاعات الاقتصاد، و هذا ما أسمته “التخطيط”. مؤتمره هذا لقي صدى عالميا؛ و قد اعتبر الأمريكي رايموند مولي Raymond Moley  -الملهم الرئيسي لروزفلت- أن لا وثيقة في مجال الاقتصاد لها تأثير أكثر على العالم غير كتاب الرأسمال لكارل ماركس، لقد ألهم ويلسون و شركته War Industries Board منذ 1917، و لينين و روزفيلت فيما بعد سنة 1933، قبل أن يلهم موني و دوكول عام 1945.

       و لقيت المبادرات الخاصة بفرنسا و بألمانيا دعما مهما في السياسات، و لم يتم إخفاء الثغرات عن العموم – حينها لم يتعلق الأمر بالأقنعة أو الاختبارات أو الأدوية، بل بالقذائف و الأغذية- و هذا ما سمح بتعبئة المواطنين و مصادرة المقاولات، و لم يعف ذلك حكومة فرنسا من مراقبة البرلمانيين، لكن الانتقاد وُجِّه خاصة للاستراتيجيات العسكرية و الدبلوماسية، فعندما شكل كليمونسو الحكومة السادسة في نونبر 2017، احتفظ بالوزراء المكلفين بالجانب الأخر المهم من الحرب ألا و هو الإمدادات: و قد أثبتوا جدارتهم.

       في الصحة كما في الحرب

لم يكن التسيير السياسي و الإداري بفرنسا متمركزا بشكل كبير، ولا متجانسا و لا نائيا، ففي الإدارة كان الكثير من المهندسين و في الحكومة كانت شخصيات تدرك جيدا التعامل مع منعطفات الأحداث المفاجئة و الجذرية، إذ لم تكن تخيفهم المصادرة و التخطيط مقارنة بأرباب العمل، الذين تعني لهم أن لا بد للمقاولة من التفكير أبعد من إرضاء المساهمين، أي -التفكير- في المسؤولية الاجتماعية، و باعتبار هذه الأخيرة ابتكارا دوليا إبان الحرب العالمية الأولى، قامت من جديد بوضع جدول أعمال عشر سنوات لاحقة مع الكساد الكبير لسنة 1929 المتبوع بالحرب العالمية الثانية.

       لم تنتظر البطالة الجماهيرية اليوم الانتصار على الجائحة لتنفجر، بل تلوح في الأفق حرب جديدة للإنسانية ضد عدو مشترك إنه ” الانحباس الحراري”.

       لا ينبغي أن يصبح التخطيط إطارا لكل عمل اقتصادي و حسب، بل تعاونا بين القطاعات الأساسية الحاسمة اليوم في مسألة البطالة و المناخ، وفق منهج موني، كقطاع النقل و الطاقة و الاتصالات، و ينبغي إعادة تصميم أوربا و مشاركتها في هذه القطاعات التي تحدد مستقبلها إذا كانت فعلا ترغب  في الحفاظ على دورها في تاريخ العالم.

       لكن يجب أن لا نغفل أو ننسى النتيجة السياسية للحرب العالمية الأولى، صرخة الشعوب المنكوبة بملايين القتلى: “لن يتكرر هذا أبدا”؛ لقد كانت الحرب قبل 1914 وسيلة مشروعة لتصفية الحسابات بين الدول، و قد بدأت تخرج تدريجيا عن القانون، كانت المرحلة الأولى في 1919 تنظيم إجراءات دولية للتنبؤ بالحروب، و إذا ما انتهكت دولة ما القواعد المسطرة فإنه سيشن ضدها الحصار الاقتصادي فورا، و الأكيد أن في حالة الجائحة لم يكن هناك أي توقع لانتشار العدوى، و بالتالي وجب إطلاق حملة عالمية للتلقيح و الوقاية خاصة أن تمويلها كان مُؤمَّنا و تغييب المعلومة من قبل بلد انطلاق الوباء وجب عقابه بقوة ووجب كذلك تحمل أصحاب القرار المسؤولية الجنائية، فصحة البشرية يجب أن تكون ملكية مشتركة عالمية.   

517 مشاهدة