التربية والفلسفة


-إعداد مجمد بنعمر

إن التربية بصفة عامة هي الأفعال والسلوكات والقيم التي يحدثها الراشدون في الصغار، وقد مرت التربية بعدد من المراحل ،وقطعت عدد من الأشواط إلى أن استقرت بموضوعها وتميزت بمناهجها ،واختصت بجهازها المصطلحي والمفاهيمي واستوت بلغتها المصطلحية.
ولم يأت هذا الاستقلال بشكل عفوي أو بطريقة تلقائية ،وإنما كان هذا الاستقلال بعد التحول الفكري والثورة المعرفية الكبرى التي تحققت في العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والبيلوجية على حد سواء في مطلع القرن التاسع عشر،بعد انفصال هذه العلوم واستقلالها على الفلسفة التي كانت الحاضنة للعلوم ،وكانت تعتبر أم العلوم.
وعلى هذا الاعتبار يمكن القول إن من أهم المراحل التي قطعتها التربية غي تاريخها ،ومرت منها هي المرحلة الفلسفية ،إذ كان لفلاسفة اليونان وللمسلمين أفكار واجتهادات فلسفية وأراء ذات منحى يخص التربية .
-المرحلة الفلسفية
تعد المرحلة الفلسفية من أهم المراحل التي قطعتها ومرت منها التربية،وقبل هذه المرحلة كانت التربية من حيث الممارسة والفعل والحضور يغلب عليها البعد التلقائي العفوي، لان المعارف التي يحصل عليها الإنسان، ويكتسبها اتجاه ذاته و نفسه أو في احتكاكه وتواصله مع الغير، أو اتجاه المحيط الذي يعيش فيه عادة ما تكون معارف تلقائية بسيطة ، يحصل عليها الإنسان تلقائيا عن طريق الاحتكاك العفوي، أو عبر العمل و الممارسة اليومية التلقائية .
فالتربية بهذا التوصيف كانت عادة ما تختزل في الخبرة الذاتية المكتسبة في السلوك اليومي بشكل تلقائي،هذا السلوك الذي يحتفظ به الإنسان وينقلها إلى غيره من اجل الحفاظ على ذاته وعلى كينونته وعلى تراثه ووجوده .
لكن التربية بهذا المفهوم و المعنى اعني البعد التلقائي لم تدم أو تستمر طويلا،لان تنتقل إلى مرحلة أكثر نضجا و تقدما ،وفيها سيتحقق للتربية الاندماج والاحتضان الفعلي مع الفلسفة،وهو ما يعني أن قبل تحقيق هذا الاستقلال والانفصال عن الممارسة الفلسفية، فان البداية الأولية في الممارسات التربوية هو توجهها نحو الاحتضان والمعايشة مع الفلسفة ،ففي البحوث الفلسفية اليونانية استحضر فلاسفة اليونان التربية واشتغلوا على مهامها ووظائفها وأدوارها، واتجهوا بشكل خاص إلى دور التربية في صناعة وإعداد الإنسان المثالي الحامل للقيم العليا .
فعلى سبيل المثال كان مقياس الذكاء عند فلاسفة اليونان هو التمكن والبراعة من علم الرياضيات والتفوق في فروعه وتخصصاته ، فأفلاطون اخرج وطرد من جمهوريته غير المؤهلين والمتمكنين من علم الرياضيات،وأطلق شعاره المعروف والخالد:”من ليس برياضي لا يدخل إلى جمهوريتنا ويجب عليه الخروج و الانسحاب منها .
فالفلسفة اليونانية كانت تؤمن بأحادية الذكاء وتختزله في الذكاء الرياضي المنطقي الذي يعد النموذج الوحيد في النموذجي الإنساني .
وحضور التربية بجانب الممارسة الفلسفية ترسخت بشكل قوي وحضرت بشكل فعلي بين اغلب فلاسفة اليونان بما في ذلك الفلاسفة الرواد الذين اختزلوا التربية في القيم العليا التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان المثالي من اجل إرضاء الالهة..
والعودة إلى تاريخ الفلسفة بشكل عام نجد افلاطون قد جعل من النشاط العلمي والرياضي هو النشاط الوحيد المشخص والمبرز للذكاء الإنساني، فالإنسان الذكي عند افلاطون هو العارف والمتمكن بعلم الرياضيات والمتمرس بخبايا هذا العلم ،وبغياب الذكاء الرياضي والتقصير أو الجهل في حل المعادلات الرياضية يغيب نشاط الذكاء عند الإنسان بشكل عام.
وهكذا تحول مقياس الذكاء في الفلسفة اليونانية ليختزل في ذكاء واحد ،وهو التمكن من الرياضيات ،أما باقي الأنشطة الأخرى التي يمارسها الإنسان فهي لا اعتبار لها بل هي ملغاة، ولا تنتمي إلى خانة الذكاء .
فالإنسان الذكي عندا لفلاسفة اليونان هو المتمكن من الرياضيات، أما باقي العلوم والفنون فلا اعتبار لها في مقياس الذكاء.

486 مشاهدة